ومنها: الفضل فكثير من العلماء يعده من الشروط، ويسرده في سياق الإتيان بها، ومن هؤلاء من لا يفسره وترك تفسيره خلل إذا المقصود به غير مكشوف، ولا واضح وضوح غيره من الشروط، ومنهم من يفسره تفسيراً يقضي بأنه لا حاجة إلى ذكره، ولا موجب لعده لرجوع معناه إلى معنى بعض الشروط المذكورة المشهورة، وقد أخل الإمام المهدي أحمد بن يحيى -عليه السلام-، في مقدمة البحر وشرحها، بعدم تفسيره حيث قال: ويجب كونه أفضل الأمة، أو كالأفضل منهم، وحكى الخلاف وأقام الدليل، ولم يأتي من تفسيره بكثير ولا قليل.
وأما القاضي عبد الله بن حسن الدواري ففسره وما قصر، فقال: اختلف في معنى الفضل في الإمام، فقال قوم المرجع به إلى اختصاص الشخص بالأمور التي لأجلها يحتاج إلى الإمام منهم الإمام المنصور بالله، والفقيه حميد، وقال فعلى هذا ينبغي أن لا يعد الفضل شرطاً زائداً والا فضل على هذا هو الأكمل في ثبوت الشرائط له.
ومنهم من قال الفضل العفة والصلاح في الدين، والأفضل الأكمل في ذلك قال: وهذا المعنى يرجع إلى الورع فلا يعد شرطاً زائداً عليه.قال: والأصح أن يقال: إن المراد بالفضل أن يكون(له) من المحافظة على الطاعات، والتجنب للمكروهات، ما يعتاده كثير من الصالحين، ويكون بينه وبين القبح حاجز، وبينه وبين الإخلال بالواجبات ليحترز في ذلك عن الإقدام والترك. قال وهذه سنة لكثير من الصالحين، وفي الحديث النبوي ((لكل ملك حمى وإن حمى الله تعالى محارمه، وإنه من دار حول الحمى يوشك أن يقع فيه)).(1/61)
قال: ويعبر عن الفضل باستحقاق الثواب والأفضل الأبلغ في ذلك وليس بمراد هنا إذ لا طريق إليه إلا الوحي. والله أعلم.
قلت: والذي يلوح لي ويقوى عند التأمل، أن المقصود بالفضل الزيادة في خصال الخير، وإحراز الفضائل، وأن الأفضل من كان أدخل في تحصيل الشروط، وهي فيه أوفر وأظهر، ففي العلم بأن يكون أعلم من غيره محرزاً من العلم فوق ما يشترط في الاجتهاد، وفي الورع أن يكون شديداً في المبالغة فيه، بحيث يكون يترك بينه وبين المحرمات أشياء ليست بمحرمة بعداً منها وآخذاً في التحرز عنها.
وفي الشجاعة أن يكون له من الإقدام وحسن التلاقي في الحروب، ما يزيد على ذلك القدر المعتبر.
وفي السخاء كذلك، وفي التدبير كذلك، بحيث يكون له من الألمعية والفراسة وحسن السياسة فوق ما سبق اشتراطه واعتباره.ه.
وفي سلامة الحواس والأطراف، وصحتها وحدتها، وقوتها وبسطة الجسم ما يزيد على ما لا بد منه، وكالتدبير في البلاغة والبيان، والنظم والنثر، والخطابة والكتابة، وحلاوة اللسان، ومكارم الأخلاق، كالبشر، وترك الكبر، وشدة التواضع، وإنصاف الأتقياء، وشدة الشكيمة على الأشقياء ونحو ذلك.
هذا هو معنى الفضل والأفضل، فهذا المعنى من هو أدخل فيما ذكر وأكثر أخذاً منه وتخلقاً به.
فإذا عرفت ذلك فلا ينبغي أن يعد الفضل شرطاً مستقلاً، إذ المشترط والمعتبر من الشروط تحصيل معنى الاجتهاد، والورع، والشجاعة، والسخاء، ونحو ذلك.
ولا يشترط زيادة على القدر المعتبر، وإنما ينبغي على هذا أن يكون محط الفائدة، ومحل النزاع أنه هل يشترط أن يكون أفضل أولا؟(1/62)
معنى أنه إذا كان الصالح للإمامة أكثر من واحد، لكن البعض أحرز نصاب الشروط المعتبرة من غير زيادة ولا نقص، وغيره زاد عليه فيها كلها أو في بعضها أن للكل منهم له زيادة على القدر المعتبر، ولكن حالهم في الزيادة مختلف، فمنهم من هو أدخل فيها وهي فيه أكثر، ومنهم من هو دونه في ذلك، فهل يصح أن ينصب المفضول بهذا المعنى مع وجود الأفضل، أو لا يليق أن يكون هذا محل الخلاف، فالذي عليه الزيدية وبعض المعتزلة، كعباد أن إمامة المفضول لا تصح.
ذكره القاضي عبد الله بن حسن الدواري قال: وممن نص على ذلك الهادي إلى الحق، والناصر -عليهما السلام-، ويفسق المفضول إذا سبق الأفضل بالدعاء إلى الإمامة.
وقال بعضهم: إمامة المفضول تصح بكل حال، وهو مذهب البغدادية، وبه قالت الزيدية الصالحية، ويروى عن غير من ذكرناه كسليمان بن جرير، وذهب أبو علي، وأبو هاشم، إلى جواز إمامة المفضول لعذر لا لغير عذر، كما في شأن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في واسع جناته-، فإن العدول إلى غيره لعذر وهو الوحشة التي كانت في القلوب من أجله، لما كان منه -عليه السلام ورحمة لله وبركاته- من قتل كثير من الصناديد الداخل أقاربهم في الإسلام، ولحسده -عليه السلام- على ما يختص به من صفات الكمال.
هذا معنى ما حكاه وذكره القاضي عبد الله بن حسن الدواري، وقال الإمام المهدي أحمد بن يحيى -رضوان الله عليه-، القول باشتراط الأفضل أو المساوي له إلا لعذر كأن يكون أعمى هو قول المعتزلة،والأشعرية، وأكثر الزيدية.
ونسب الخلاف فيه إلى الحشوية، فإنهم يجيزون إمامة المفضول وغير عذر.ه.(1/63)
واحتج من لا يجيز إمامة المفضول بتحري الصحابة –رضى الله عنهم- للأفضل، وفزعهم إلى عد الفضائل، وقول عمر بن الخطاب لأبي بكر حين قال: بايعوا أحد الرجلين، يعني عمر وأبا عبيدة: أتقول هذا وأنت حاضر، ولأن الإمام قدوة في الدين لجميع المسلمين فمن حق القدوة أن يكون أكمل ممن يقتدي به فيما هو قدوة فيه، إذ لا يحسن أن يقتدي الأكمل بمن هو دونه، وجوب الاقتداء أنها تلزمهم طاعته، ويلتزمون اجتهاده إذا وقع منه إلزام.
قال الإمام المهدي -عليه السلام-: وكافيك أن الإمام قائم مقام الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في موارده ومصادره، ومن حق من يخلف رجلاً في أعماله أن يكون أقرب الناس شبهاً به في تأدية تلك الأعمال، وإلا عاد الغرض في استخلافه مكانه ليقوم مقامه بالنقص والإبطال، وكلما كَمُلَ فضل رجلٍ قَرُبَ شبهه بالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- ويبعد عن الشبه بنقصان الفضل، وقد بالغت الإمامية، وكذلك الجارودية من الزيدية فزعموا أن إمامة المفضول لا تصح.
ولو لعذر مانع عن قيام الأفضل وهو غير صحيح فإن المفضول إذا كان أصلح وأرجح في قيامه بالمصالح المقصودة من الإمامة، فهو أولى رعاية للأصلح، يوضح ذلك أن الأفضل لو كان أعمى لم يصلح أن يقام لهذا الأمر، وكذا لو اختل فيه شرط كالشجاعة والتدبير وعلى ما قاعدتهم يستد حينئذٍ باب الإمامة إذ الأفضل غير صالح ووجوده مانع عن قيام المفضول الصالح.(1/64)
قلت: وهذا الاحتجاج، وممن ذكره الإمام المهدي لدين الله -عليه السلام- لا يتهيأ على ما رجحناه من تفسير الأفضل، بأنه جامع الشروط مع زيادة على القدر المعتبر منها، وإنما تهيأ على غيره من التفاسير. والله سبحانه أعلم.
واحتج مجوزوا إمامة المفضول، بجعل عمر الأمر شورى بين ستة متفاوتين في الفضل، وقال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم، ويمكن أن يجاب بأن عمر بن الخطاب ربما اعتقد تساويهم، وبأن كلام أبي بكر على جهة التواضع، وهضم النفس، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تفضلوني على يونس بن متى )).
وقد ادعى بعض أصحابنا الإجماع على اعتبار الأفضل، وقال صاحب (أنوار اليقين)، لا خلاف في ذلك، واختلاف الصحابة في الأئمة الأربعة إنما كان لاختلافهم في الأفضل.
قلت: دعوى الإجماع فيه مجازفة، والخلاف مشهور مأثور، منذ زمن الصدر الأول، يدل عليه قول عمر: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً ما خالجتني فيه الشكوك، وعلي -عليه السلام- ووجوه العشرة وغيرهم من فضلاء الصحابة موجودون.
ويتصل بهذا الكلام ذكر فوائد:
الفائدة الأولى: تترتب على ما فسرنا به الأفضل، يقال: لو وجد اثنان أو ثلاثة أو أكثر مختلفين في الأفضلية، فأفضلية هذا بزيادة في التدبير وهذا بفصاحة وبلاغة وغير ذلك، فكل منهم أفضل باعتبار معنى من تلك المعاني برز فيه وبذَّ الأقران في تعاطيه ما المعمول عليه حينئذٍ والأقرب والله اعلم أنه يرجع إلى ترجيح أهل الحل والعقد، في هذه الأمور المتعارضة، ويتوخون ما هو الأرجح والأصلح في الأمور المقصودة بالإمامة، وما أدَّاهم نظرهم إليه عملوا عليه.(1/65)