قال -عليه السلام-: ما وقفنا على باب الإمام في أي المصنفات الأصولية والفروعية على تباين أراضي مصنفيها وأراءهم إلا وحكوا الإجماع منعقد على ذلك من دون اختلاف، حتى لو ادعي أن التواتر حاصل بخبرهم لكثرة عددهم لم يبعد، لأن كل واحد منهم -في الأغلب- لم ينقل الإجماع عن الكتاب الذي نقل عنه المصنف الآخر.قال ض عبد الله الدواري: في دعوى الإجماع نظر.
قلت: لا شك أنه يتطرق النظر إلى دعوى الإجماع في هذا الموضع وغيره، لكن يقال له: إن كنت ممن يلمح إلى هذا المعنى وهو أن اعتقاد الإجماع لا يتهيأ في أصله أوفي نقله، مالك تحتج به في غير هذه المسألة، وإن كان التنظير يختص بالإجماع في هذه المسألة، فلعمري أنه أظهر منه في غيرها وأقوى، واحتج -عليه السلام- بشيئ من الآيات والأخبار والآثار،كقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى}[يونس: 35] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[البقرة: 247] قول النبي-صلى الله عليه وآله وسلم: ((من استعمل على قوم عاملاً وفي تلك العصابة أرضى لله تعالى منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد خان الله ورسوله)).
وقول علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في الجنة-، في أمر السقيفة: (والله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله تعالى، الفقيه في الدين، العالم بالسنة).(1/56)
وقرر المهدي -عليه السلام- هذا الاستدلال ما أمكنه، وبسط فيه القول حينما استحسنه، فأما لو فرض أن المسألة ظنية اجتهادية فلا بأس بمثل هذا التكليف والتشبث بالمآخذ البعيدة، فمثل هذا في مسائل الظن غير قليل.
وأما مع ما هو بانٍ عليه هو وغيره من كون المسألة قطعية، فترك التعلقات بهذه المتعلقات هو اللائق ممن كان ذلك مذهبه، فإنها مما ينبغي أن يكون عنده مآخذ بعيدة إذ الأمر المذكور لا مدخل له هنا ولا أثر، والخبر المذكور أحادي ودلالته غير صريحة ومرجع التمسك به في القياس الذي ليس بمعلوم، والآيتان الكريمتان الأولى منهما غير صريحة ولا واردة في هذا المعنى ولا لمح فيها إليه.
والأخرى وإن كانت أقرب منها إلى ما نحن بصدده، فهي عن إفادة العلم بلزوم اشتراط الاجتهاد في الإمام بل عن إفادة الظن بمراحل، وليس فيها أن نبي بني إسرائيل أخبر بلزوم اشتراط ذلك في الملك الذي بعثه لهم بل اعتذر به في اختياره لطالوت، فمدلول ذلك أنه أمر مرجح ولو لزم منه اشتراطه للزم اشتراط البسطة في الجسم ولا قائل به.
ثم عاد المهدي -عليه السلام- إلى طريقة عقلية، وقال: يصلح ذلك بعد معرفة المقصود بقيام الإمام وهو إقامة الحق أو الدلالة عليه، ورد الشارد منه إليه، ونحن نعلم ضرورة أن القائم لا يمكنه ذلك إلا إذا كان عارفاً بالحق، ولا يمكنه المعرفة إلا بالاجتهاد في العلوم الدينية.
قال: وهذا واضح كما ترى. قلت: بل هو غامض لا يرى، وغير لائق من مثله -عليه السلام- أن يستدل بالعقل في المسائل الشرعية الفرعية، كما قدمنا في اشتراط المنصب.(1/57)
وأما مذهب الإمامين المؤيدين بالله تعالى، والغزالي، فاحتج عليه الإمام يحيى بن حمزة، بأن الضرورة تجَّوز ذلك، وإلا أدَّى إلى خلو الزمان عن الأئمة وفي ذلك ضرر وفساد كبير، لأنه يؤدي إلى تعفية أثار الديانة، وإمحاء رسوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطي بساط الجهاد وتعفية أعماله وبطلان أحكامه، إلى غير ذلك من الفساد.
قلت: وهو مذهب قوي حسن، لكن يزاد فيه أنه إذا تعذر الاجتهاد لم يكف أن يكون مقلداً صرفاً، بل لا بد أن يكون مميزاً تميزاً حسناً، عارفاً بالله تعالى وصفاته، وما يجوز عليه، وما لا يجوز، له مشاركة في العلوم المحتاجة، مرتقي إلى درجة الترجيح، وهذا المذهب لا يعد مصادماً للإجماع، بل قد صرح الإمام المهدي -عليه السلام- بان الإجماع إنما انعقد على اشتراط الاجتهاد عند إمكانه، وأن الخلاف ثابت عند تعذر الاجتهاد.
قال: ونحن نرفع القاعدة هذه، ونقول: إنه لا يتعذر مع بقاء التكليف، وهم يقولون: يجوز تعذره مع بقاء التكليف.
قال: ونحن لا نخالف مع فرض تعذر الاجتهاد، مع بقاء التكليف بنصب الإمام في أن إمامة المقلد حينئذٍ جائزة وإلا كنا مكلفين بما لا يطاق، ومع تجويز ذلك يرجع الخلاف (إلى) الوفاق من غير شك ولا خلاف بيننا وبينهم إلا في تجويز خلو الزمان عن المجتهد.
قلت: ينبغي أن يقال في تجويز خلو الزمان من مجتهد صالح للإمامة، وأما وجود مجتهد لا يصلح لها ففرض وجوده من مسألتنا هذه كفرض عدمه.(1/58)
تنبيه: قد عرفت أنه يؤخذ من كلام الإمام المهدي -عليه السلام-، أن المسألة اتفاقية مع تقدير خلو الزمان عن مجتهد صالح للإمامة، ويؤخذ من هذا أنه لو خلا الزمان عن فاطمي مثلاً أو عن شجاع صالح للإمامة أن الإمامة لا تتوقف على ذلك لتعذره وحصول الضرورة إليها.
ويتفرع على هذا لو أن الزمان خلا عن كامل الشروط، ولم يوجد إلا من فيه نقص، ولكن الناقصين متعددون، وبعضهم مختلف، فأحدهم ناقص عن شرط المنصب، وآخر ناقص عن الاجتهاد، وآخر ناقص عن التدبير، وآخر ناقص عن الشجاعة، ألجأت الضرورة إلى قيام ناقص ما الأرجح اعتقاده من تلك النواقص هل يعدل إلى المجتهد أن أمر العلم أهم أو إلى ذي المنصب أو إلى ذي التدبير بنظر في ذلك.
وتحقيق الكلام في هذا المعنى، الذي لم نقف لأحد ممن سبقنا على كلام فيه، أن المعتبر الترجيح والنظر فيما هو من ذلك النقصان، أقل إخلالاً بمقصود الإمامة وتكاليفها العامة، فمن كان نقصانه أكثر خللاً أطرح وعدل إلى غيره، وإن قُدِّر أن الشرطين المفروض خلوا أحد الملحوظين بالإمامة، عن أحدهما وخلوا الآخر عن الآخر مستويان في الحكم، وبكل واحد فيهما رجحان من جهة دون أخرى، بحيث أنه لا تفاوت يثبت التحيز ممن سبق بالدعوة، إن جعلناها الطريق أو بالاختيار على القول به، كان حكم الإمامة ثابتاً لمن دون الآخر، ويمكن من التفريع على هذه القاعدة ما هو أشنع مما ذكر، ولكنه أمرٌ ربما لا تدعو الحاجة إليه، ولا يخلوا جهابذة النظر على البينة عليه، ولنقتصر على هذا القدر في هذا المعنى، والله تعالى أعلم.(1/59)
تنبيه آخر: ذكر اشتراط الاجتهاد في الإمام مستدعي تحقيق معنى الاجتهاد وقدر نصابه وتعداد علومه، ومن عادات المصنفين ذكر ذلك إلى استيفائه، ونحن استرجحنا طي هذا المعنى، لأنه أمر موجود غير مفقود، وكتب علم الكلام، وفن الأصول، وبعض كتب الفقه مشتملة عليه، فلا نشتغل بذلك في إملائنا هذا إيثاراً إلى للإختصار واكتفاء بما في المتداول من الأسفار والله تعالى ولي التوفيق والهادي إلى أيمن طريق.
تنبيه آخر: الذي قد ذكرناه من شروط الإمام وشرحناه، هي الشروط المعتبرة المحتاج إليها في الإمام المحتاج إلى ذكرها واقتصر بعض المحققين، وقد يذكر غيرها من الشروط والصفات المعتبرة حسبما يشير إليه.
فمنها: أن يكون سليم الحواس والأطراف فلا يكون أعمى، ولا أصم ولا أبكم، ولا أكسح، ولا أقطع، ويتصل بهذا أن يكون سليماً من الخصال المنفرة، فلا يكون أبرص ولا أجذم، ولا ممن يعتريه الجنون في بعض الأحوال ولا غير ذلك من المنفرات.
أما النوع الأول: فلإخلاله بما يقصد من الإمام وينصب أجله وهو ظاهر.
وأما النوع الثاني: فلما فيه من التنفير المخل بما يراد فإنه لا قوام لأمر الإمام وما يقصد من القيام إلا أن يكون الإمام ممن يرغب إلى مثله، ولا ينفر عنه، ولا يستكره القرب منه ولا الاتصال به، وقد ثبت اشتراط مثل ذلك في حق النبي مع تأييده بالمعجزات ونزول الوحي عليه، ففي حق الإمام أولى.(1/60)