قلت: ويؤخذ من مذهبهم أن الذي عليه أئمة الهدى من الخروج على الظلمة، ومنابذتهم خطأ، ولا يعتقدون إمامتهم، بل ليت أنهم سلموا ولم يتعاطوا ملامتهم، وما هو إلا مذهب شنيع ورأي فضيع، وتأوله بعيد وتيسبيره غير مفيد، فالله المستعان على زلات العلماء الأعلام الأعيان، ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم لما خاضوا في أمر الإمامة وتنازعوا إلى عد الفضائل، وصدر منهم ما يقضي باعتبار الأفضل، وقال عمر لأبي بكر لما قال بايعوا أحد الرجلين يعني عمر وأبا عبيدة: أتقول هذا وأنت حاضر.
ولأن المقصود من الإمام إقامة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحراسة الإسلام، وصيانة الدين، فكيف يتهيأ مع جهل الإمام وفسقه، إنما كلامهم هذا رد للإمامة إلى حكم السلطنة، والله أعلم.
واعلم: أنه لا بد من اعتبار ما يعتبر في العدالة من غير ما ذكر، وذلك تنزيه نفسه عن بعض المباحات كإفراط الضحك، وكثرت المداعبة والمزاح،والبول في السكك والشوارع، واللعب بالحمام؛ لأنه لا ينبغي أن يشتغل إلا بأمور الدين والنظر في أحوال الناس وقضى حوائج المسلمين، ويجب أن يتنزه عن الصغائر المستخفة كما ورد في التطفيف بحبه وسرقة بصلة وإذا كان مثل هذا يعتبر في حق الشاهد فاعتباره في حق الإمام أولى وأحرى.(1/46)
قال الإمام يحيى: لأنه إذا كان باحراز منصب الإمامة أفضل الخلق، فينبغي أن يكون أقوم الخلق في حق الله تعالى وأطوعهم له وأعظمهم منزلة عنده، ولا يتعاطى مثل تلك المباحات والصغائر المستخفة، مما تقل المهابة، وتسقط المرتبة، وتطرد التهمة في الدين، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم.
قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: وأما الورع فهو ملاك الصفات وعليه التعويل في أكثر تصرفات الإمام فإنه مهما كان ورعاً عن الوقوع في المحرمات كانت أموره وتصرفاته جارية على قانون الشريعة المطهرة من غير مخالفة فيأخذ الأموال من حلها ومن حيث أمر الشرع بأخذها منه ويضعها في مواضعها.
قلت: والأصحاب يحتجون بقوله تعالى: { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة: 124] في جواب إبراهيم -عليه السلام-، ووجه الاحتجاج بها مذكور في (الكشاف) وغيره من كتب الكلام وفيه كفاية.
وأما السخاء فالمعتبر منه، أن يضع الأموال في وجوهها، ولا يبخل بها عن ذلك، ولا يستأخر بها بخلاً وضنة.
قال الإمام يحيى بن حمزة: ولا يقدح في ذلك أن يدخر شيئاً من الأموال لنائبة من النوائب، وحادثة من الحوادث، تنجم عليه من الظلمة والبغاة فينفقها فيها.(1/47)
قال: ولا يشترط تجاوز الحد في الكرم. قيل: (المهدي) ولا أن يسخى ببذل ماله الخالص، ووجه اشتراط هذا الشرط أنه لو لم يكن سخياً بالغنى المذكور كان مخلاً بالواجب وهذا ينافي الورع، ولهذا قيل: بأن هذا الشرط يدخل في اشتراط الورع، ولأن من المقصود من نصب الإمام أخذ الحقوق من أهلها ووضعها في مواضعها، فمخالفة ذلك خلاف المقصود.
وأما الشجاعة فمعناها أن يكون مجتمع القلب عند الحرب وملاوثة العدو، وبحيث لا يكون فرقاً جباناً، طائش الفؤاد، منزعج الصدر، على حال لأجله يمتنع منه الثبات في القتال، ويقتضي عدم اتساع الصدر لعظم القلق والإشفاق.(1/48)
هكذا فسر الإمام يحيى -عليه السلام- هذا الشرط، وهو تفسير حسن، وهو بمعنى ما ذكره غيره، ونص عليه الناصر للحق -عليه السلام- وكثير من المتكلمين، وأما ما روي عن الهادي إلى الحق -عليه السلام-: إن معنى الشجاعة، أن يحمل على الألوف، ويخلط الصفوف بالصفوف، لا يهاب الجمع والإقدام، عليه قلوا أو كثروا، فلعله -عليه السلام- أراد التعريف بأبلغ أنواع الشجاعة وغاية الأمر فيها، ويبعد أن يجعل مثل هذا شرط ولو حكم باشتراطه لقدح ذلك في إمامة كثير من الأئمة المعتبرين، وقل ما يكون الإنسان على هذه الحالة، ووجه اشتراط الشجاعة إن لو لم يكن الإمام كذلك لم يؤمن أن ينهزم حال ملاقات العدو لجبنه ودهشه، وفي ذلك وهن في الدين وتقوية لأمر المعاندين، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ }[الأنفال: 16] الآية، فكيف يكون حال الإمام إذ آل إلى هذا المآل، ولأن الجبن يصد عن أمر الحرب وتدبيره على وجه يقع به نكاية العدو، وعن إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام على كبراء الناس وعظمائهم، وهذا يخالف الغرض بالإمامة.
وأما التدبير وحسن السياسة، قيل (المهدي)لا: وحقيقة التدبير معرفة الطرق، التي يتوصل بها إلى الأنواص على وجه لا ينكره من عرف وجه سلوكها توصل، لو بها أقرب ما يتوصل به ذلك الطالب إلى ذلك المطلوب بحسب حاله وسواء وصل إليه أو لا؟(1/49)
قلت: والقصد أن يكون له رأي قويم، وتدبير سديد، فإن تعد الرأي الصائب يجلب أنواع المصائب، ولابد أن يكون معروفاً بحسن السياسة التي معها يتمكن معها من تمهيد الرئاسة وتدبير أمر الحرب والسلم، وإقامة قانون الحرب مهما كان أرجح وأصلح، ويكون مع صواب السلم إليها أجنح، كما فعل -صلى الله عليه وآله وسلم- في إقامة الحرب، وشن الغارات، على من خالفه، وكما سالم يوم الحديبية، في إقامة الحرب عشر سنين، لما رأى في الصلح للمسلمين حيث كان الضعف حاصلاً فيهم، فانكشف في ذلك الصلح الخير والبركة، فهكذا يكون حال الإمام، والمشترط أن يكون أكثر رأيه الإصابة في الحرب والسلم والسياسة.
قيل (القاضي عبد الله الدواري): ويدل على أن الإجماع ينعقد من الأئمة على اشتراط ذلك، ولأن كونه على غير هذه الصفة ينقض الغرض بإمامته، ولا يتمكن حينئذٍ من ضبط الجنود، وتقويم أود العساكر، ولا يهتدي إلى ما فيه صلاحهم، وتنتظم به أمورهم، وتكون به نكاية العدو أو جلبة إلى الطاعة.
وأما الاجتهاد وبلوغه في العلم إلى درجته فقد اختلف فيه، والمشهور عن أكثر الأمة أنه لا بد من أن يكون عالماً مجتهداً، والمعتبر ما يحرز به نصاب الاجتهاد، ولو احتاج في بعض الأحوال إلى أن يراجع غيره في بعض المسائل ويستمد منه إذ لا يقدح ذلك في اجتهاد المجتهد، والخلاف فيه من وجوه:
أحدها: ما ذهب إليه الإمامية، من اعتبار أن يبلغ في العلم والاجتهاد إلى حد لا يحتاج معه إلى غيره من العلماء في شيء من المسائل، بل شرطوا أن لا يأخذوا شيئاً من العلوم إلا عنه وربما اشترطوا أن يكن أعلم الناس.(1/50)