ثانياً: إن كلامه هنا متوجه إلى ما يحتاج فيه إلى تعديل الرواة كأخبار الآحاد وقليل ما يحتاج إليه الناظر لوجود ما يستدل به من القرآن الكريم، قال سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3] أو من السنة المتلقاه بالقبول، أو المتواتر، أو من طريق الأئمة الغنيين عن تعديل المحدثين وإنكار ذلك مكابرة، بل إنكار للضرورة البديهية.
ثالثاً: إن في طرق هذه الكتب من هو غير مقبول إما لكونه متلبساً بأحد البدع إما جبر أو تشبيه أو بغي أو إرجاء أو يتفرد برواية الكتاب كالفربري سلمنا أن هؤلاء مقبولون فغالبهم داعياً إلى بدعته ولا يخفى ما فيه عند أهل الحديث، وإنكار وقوع هذا الوجه مكابرة.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الثاني: إفراط المعترض على أهل السنة وطلبة الحديث في تفسير معرفته .. حتى قال: إن ذلك متعسر أو متعذر وذلك يقتضي أنه شاك في تعذره غير قاطع بدخوله في حيّز الممكنات، وقد ثبت أن الاجتهاد من الفروض الدينية والشعائر الإسلامية وأنه رأس معارفه الغزيرة...إلى قوله: وطلب الحديث مشروع واجب، فلو أوجبه الله وهو متعذر لكان الله سبحانه قد كلفنا ما لا نطيقه وهذا القول بتكليف ما لا يطاق مردود عند جماهير أهل المذاهب كلهم، وأما المعتزلة والزيدية فعندهم أن تجويزه كفر وخروج من الملة...إلى قوله: ومذهب الزيدية أنه لا يجوز خلو الزمان عن عالم مجتهد جامع لشروط الإمامة فعلى أي المذاهب بنيت هذه الرسالة؟ ولأي الأسباب ركبت هذه الجهالة؟.
[المؤلف] قلت: المتأمل لما قد قدمناه يعلم براءة المترسل من لزوم تعذر كونه من الممكنات؛ لكون المبالغة لغة عرفية، ولوجود السنة المشروطة في الاجتهاد ممكن طلبها مما قدمنا.(1/36)
وأما قوله: (فعلى أي المذاهب...)إلخ فلقائل أن يقول: على المذهب الأقوى من كون الفسق سلب أهلية لما ورد من الأدلة على رد أخبار الفسقة أو كونه داعي إلى بدعته، ولا يبعد دعوى الإجماع على رد خبر الداعية وهو موجود في رجال الصحيح، ثم من أين لك حصر السنة على ما عند أهل الصحاح بريئاً من المرجحات السابقة والشواهد الموافقة؟
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه الثالث: أن كلام هذا المعترض مستلزم لخلو الزمان من أهل المعرفة بالحديث ومن أهل الاجتهاد في العلم.
[المؤلف] أقول: أما مما حكى فلا يستلزم ذلك.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الرابع: إنه لا فرق فيما ذكره بين علم الحديث وبين سائر علوم الإسلام...إلخ.
[المؤلف] أقول: قد سوى ـ رحمه الله ـ بين علم الحديث وغيره ولا سواء؛ لوجوب تعلق علم الحديث على كل ناظر، ومعرفة الصحيح من غيره لا يخفى على الخابر، ولا تختص به فرقة دون آخرين؛ لوقوعه في جماهير العاملين من فرق المسلمين، ودعوى اختصاص الظاهرية بذلك من افتراء المفترين، بيانه أن أعظم الفرق تحرياً للاجتهاد والجهاد هم الزيدية وغيرهم قعد عن هذين الركنين، وإن تكلموا في رجال الإسناد وفحصوا عن أدلة الاجتهاد فأعمالهم مخالفة لأقوالهم، ومن تصفح المصنفات والأحوال برز له برهان ما قلنا بروز الهلال.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه الخامس: أجمعت الأمة على جواز إسنادها في الكتب الصحيحة إلى أهلها بعد سماعها على من يوثق به...إلخ.(1/37)
[المؤلف] قلت: ومثل هذا لا يضر المترسل ولا ينفع المجيب، وأما الإجماع فإنما استفاده من قولهم: أخرجه البخاري أخرجه مسلم، وقد يتفق مثل ذلك بالنسبة لا بالمعنى صحت تلك النسبة لديهم، على أنا لو فرضنا فليس كل مجتهد في كل عصر نقل عن الصحيحين، وصح له ذلك على أن من أهل البيت القدماء من منع من القراءة في كتب العامة، كما ذلك مشهور عن الحسن بن يحيى بن زيد وغيره إلا من عارف، وعدم علمك ليس بحجة مع علم غيرك.
[ابن الوزير] وقوله: حتى إن المعترض زعم أن البخاري مبتدع بل كافر صانه الله عن ذلك، واحتج عليه بشيء نقله من صحيحه يدل على أن البخاري يؤمن بالقدر، مع أن التكفير عند الزيدية والمعتزلة لا يجوز إلا بنقل متواتر، فكيف يحتج على البخاري بما في صحيحه وهو عنده لا يصلح بطريق ظنية؟!
[المؤلف] فالجواب: أما كونه مبتدعاً فظاهر على مذهب العدلية وله مصنف في خلق الأفعال وهو ممن اشتهر عنه القول بقدم القرآن إلا أنه خالفهم في اللفظ به هل قديم أو مخلوق؟
وأما كفره فليس بصحيح لما ذكره ـ رحمه الله ـ لا سيما بطريق الآحاد على أن البخاري لم ينقل إلا ما قد حكينا في كتبنا عند الرد فلا يلزمه الكفر، كيف وقد نقلنا ما هو أعظم كمذاهب المشركين وأهل الكتاب، فالله المستعان الحق أحق أن يتبع!
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه السادس: إن كلام هذا المعترض مبني على تحريم قبول المراسيل كلها، وما أدري لم بنى كلامه على هذا وهو لا يدري باختيار خصمه؟ ...إلى قوله: فجواز قبول المراسيل مذهب المالكية والمعتزلة والزيدية ونص عليه منهم أبو طالب في المجزي والمنصور في كتاب(صفوة الاختيار)...إلخ.
[المؤلف] قلت: إن كان للمترسل غير هذه العبارة المحكية فيمكن، وما حكاه من المذاهب فصحيح مع كون المرسل لا يرسل إلا عن عدل، وأما هذه العبارة فلم يظهر لي من السياق لزوم عدم قبول المراسيل، فتأمل!!(1/38)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: إذا عرفت هذا فاعلم أن أقوى المراسيل ما أرسله العلماء من أحاديث هذه الكتب لوجوه:
أولها: أن نسبة الكتاب إلى مصنفه معلومة في الجملة بالضرورة، فإنا نعلم بالضرورة أن محمد بن إسماعيل البخاري ألّف كتاباً في الحديث، وأنه هذا الموجود في أيدي المحدثين، وإنما يقع الظن في تفاصيله وما عُلمت جملته وظُنّت تفاصيله أقوى مما ظُنت جملته وتفاصيله. ا ه.
[المؤلف] أقول: دعوى الضرورة دعوى لا بيان عليها، وقد عرفناك المؤاخذة آنفاً، وما أدري كيف الضرورة عنده، على أنا لو سلمنا ما ذكر فكيف بالتفاصيل؟ فكيف بالطريق منها إلى النبي صلى الله عليه وآله ؟ على أنا لا ننكر شهرة هذه الكتب بين علماء الإسلام والشهرة لا تفيد العلم مع استنادها إلى انفراد الآحاد إلى الفرد مع أن كلامه هذا حجة عليه في كتب الزيدية التي قام وقعد في تضعيفها كالشفاء وغيره لوجهين:
أحدهما أن الطريق إلى مؤلفيها أقوى من الطريق إلى البخاري.
ثانياً: إما أن يكونوا لا يرسلون إلا عن عدل عندهم فأقوى ممن يرسل أو يسند عن فاسق التأويل ويرسلون عنه، مع اشتراط تحريم الكذب ورجحان الضبط، فإذاً هم والصحاح سواء، ولا محيص من أحدهما إلا بدعوى الجهل، وفقدانه فيهم ظاهر لمن أنصف، كيف وأكثر الجروح من المطلق المدفوع المنوه بعدم جريه في مصنفاتك ـ رحمك الله!(1/39)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه السابع: إن أقصى ما في الباب أن يروي المحدث عن المجاهيل من المسلمين والمجاهيل من العلماء فقد قال بكل من ذلك من أهل العلم المجمع على فضلهم وثباتهم من لا يحصى، فقد ذهبت أئمة الحنفية إلى قبول المجهول من أهل الإسلام، وذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة والزيدية وهو أحد قولي المنصور بالله ذكر ما يقتضي ذلك في كتابه (هداية المسترشدين) وهو الذي ذكره عالم الزيدية ومصنفهم وعابدهم وفقيههم عبد الله بن زيد العنسي ذكره في (الدرر المنظومة) بعبارة محتملة للرواية عن مذهب الزيدية كلهم وهو الذي أشار إلى ترجيحه أبو طالب في كتاب (جوامع الأدلة) وتوقف فيه في كتاب (المجزي)...إلخ.
[المؤلف] أقول: شروط الزيدية معروفة صريحاً، وأما الفلتات والمحتملات فلا ندعي لهم العصمة، وهذه مصنفاتهم منادية على عدم قبول رواية المجهول بل الغالب عليهم جزم [عدم] قبول رواية فاسق التأويل فكيف بالمجهول، ومدعي الغرائب مطالب بالبرهان، وكلام المنصور مصرح به في (شرح السيلقية) عند ذكر معاوية بن أبي سفيان على أن اختيار المتأخر لا يضر مذهب المتقدم من أئمتنا قرناء الكتاب ورؤساء أولي الألباب.
وأما الحنفية فينظر في النقل عنهم من جواز قبول رواية المجهول مطلقاً، قال في (مرآة الأصول) وشرحها (مرقاة الأصول) من أصول الحنفية في بحث حال الرواة ما لفظه: وهو إن عرف بالرواية فإن كان فقيهاً تقبل منه الرواية مطلقاً سواء وافق بالقياس أو حالته وإن لم يكن فقيهاً كأبي هريرة وأنس فترد روايته إن لم يوافق الحديث الذي رواه قياساً.
[ابن الوزير] قال: فأقول: يمكن أن يحتج لهما بحجج قرآنية وأثرية ونظرية، أما القرآنية فقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل:43] فإطلاق هذا الأمر القرآني يدل على وجوب سؤال جميع العلماء إلا ما خصه الإجماع وهو الفاسق المتعمد.(1/40)