[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثاني: إن الله تعالى أجمل كيفية الجدال بالتي هي أحسن في تلك الآية وبينه في غيرها بتعليمه في القرآن العظيم لنبيه صلى الله عليه وآله فقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ، فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:19،20]، فهذه الآية الكريمة على ما يتمنى السني في وضوح الدلالة على المقصود في هذا الباب من النص الصريح على أن ما ذهبوا إليه وأجابوا به أهل اللجاج في الدين هو الذي أمر الله به رسوله صلى الله عليه وآله من الاقتصار على مجرد الدعاء إلى الإسلام والاتكال في إيضاح الحجة على ما قد فعله الله تعالى لهم من خلق العقول وبعثة الرسل وإنزال الآيات وإظهار المعجزات...الخ.
[المؤلف] أقول: ليس كما زعم من أن الآية مجملة لوجهين:(1/221)


أحدهما: أنه قيد المطلق فيها بالتي هي أحسن والقرآن كله حسن والنبي صلى الله عليه وآله لا ينطق عن الهوى ولا يجوز عليه البذاء، قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] وقد عرفناك تفسير الآية، وأما هذه الآية فهي حكاية لما كان بينه صلى الله عليه وآله وبين أهل الكتاب وذلك بعد أن عرفهم ما أوحى الله إليه من صفاته في كتبهم السابقة وأفحمهم في جميع تلك المقامات حتى أدى ذلك إلى عرض المباهلة وخرج صلى الله عليه وآله هو وأهله لها فخافوا نزول العذاب وأقروا له بالجزية وامتنعوا من الإسلام، فنزلت الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وآله لشدة حرصه على إسلام الناس وأمر أن يجيبهم بهذا الجواب الإقناعي الذي هو أبلغ ما يقال بعد ظهور التمرد في المقال.
فإن قال: إنه لم يجبهم بغير هذا الجواب -أعني بغير هذه الآية- فقد رد الضرورة، فكم في القرآن من الحجج البليغة.
وإن قال: إنه قد أجاب بما يقتضيه المقام، فهو المطلوب، وعرفت أن تمنى السنن من الأباطيل وأنه حمل القرآن على غير محمله، أليس في آخرها: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ}[آل عمران:20] والبلاغ إبلاغ جميع الحجج كما قد ورد كثير غير قليل.
منتك نفسك في الخلا باطلا(1/222)


وأما قوله: إنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وآله إلا مجرد الدعاء، فإن زعم أن ذلك قوله: اسلموا تهتدوا. لا غير، فقد ورد النقل المتواتر ونسب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عدم التبليغ، وإن قال: بلى دعاهم بما في القرآن من حجج، فأمر مفروغ منه وهو المطلوب، فإن القرآن لم يترك شيئاً يقتضيه المقام مع كل مناظرة إلا وقد أتى عليه إما صريح أو إشارة، ألا ترى ترتيب نزوله فالمكي في محاجة المشركين والاحتجاج على التوحيد وقياس النشأة الأخرى على الأولى، والمدني في محاجة أهل الكتاب والمنافقين وتعليم شرائع الإسلام، وكفانا دليلاً على الحجج العقلية وصحتها قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2] وغيرها ما يقتضي معناها، وأكثر الخطاب القرآني موجه إلى ذوي الألباب وعلم الكلام من تفسير القرآن كما أن التفاسير قد ملأت الآفاق، وكذلك كتب الفقه هل هي إلا ثمرة الكتاب والسنة وجميع كتب الأدب مما يحتاج إليها القارئ في تفسير القرآن، فهل زاد أهل الحديث منهم هذا الخبر [وزاد] السيد محمد ـ رحمه الله ـ على أن نسب النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه إلى الجهل وقاسهم بأهل الحديث العمي القلوب، ضعفاء الأحلام، وسفهاء الأنام، كم يحملون من الآثام من جرح الأئمة الأعلام، كأنهم الحكام على دين الله والذي شافهوا رسول الله صلى الله عليه وآله فعرفوه حين جرح أهل بيته وشيعتهم، وعدل الفسقة وطبقتهم من الطلقاء والبغاة على المرتضى، ولم ير لعن أمير المؤمنين وقتاله جرحا، ولا قتل الحسين وأهله وبقية أهل البيت منكراً.
[ابن الوزير] قال -رحمه الله تعالى-: فمن ادعى عدم بيان أدلة الإسلام بعد هذا لم يقبل منه ولا يلتفت إليه، وقد نص الله على ما يكذب القائل لذلك بقوله تعالى في الآية المتقدمة: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[آل عمران:19]...الخ.(1/223)


[المؤلف] أقول: إن عنى بالبيان قوله: أسلموا تهتدوا. لا غير، فقد زل ـ رحمه الله ـ هو، وإن عنى جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله فهو الحق، ولكنكم خالفتم معاني القرآن وحملتموه على الظاهر وعلى أدنى المراتب، فإن أبلغ الكلام عند أهل اللسان هو المجاز والاستعارات ورددتم الحجج العقلية وقد نص على اعتبارها القرآن لكن هذا القول من التعريض بالعدلية وذلك لا يحسن من مثلك، فمتى وجدتم لأحد علمائهم لفظة من هذه المقالة فتنقلوها للتشنيع فقد أكثرت من التشنيع ونقل ما هم عنه براء والله حسيبكم.(1/224)


اعلم أنا لو عدلنا عن الاعتساف، وملَّكنا زمام أقوالنا أيدي الإنصاف لم نجد لأهل الكلام قولاً ولا قاعدة تخالف القرآن، وتشد أعضاء اليونان كما زعمتم خارجة عن أسلوب المناظرة من رسل الأمم الماضية، هذا القرآن مشحون بمناظرة الأنبياء لأممهم من الاستدلال بالمخلوقات على الخالق والحث على النظر العقلي، وتهجين تقليد الآباء والأخذ بالمظنون، وقد اطلعنا بحمد الله على مصنفاتكم فلم نجد فيها ما يشفي غليل الطالب إلا كثرة الهذيان، والدعاء إلى الجهل بأسرار القرآن ثم ختمتم كتابكم هذا بما لفظه: إخواني (فلا يستخفنكم الذين لا يوقنون) ولا يستهوينكم الذين يسمون المؤمنين بالسفهاء {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ}[البقرة:13]، ولا يطيش وقاركم الذين يسخرون منكم {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة:79] ...إلى أن قال: فتأسوا رحمكم الله بمن تقدم من المؤمنين في الإعراض عن المستهزئين {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة:15،16] إلى آخر كلامه نثراً وشعراً من هذا القبيل من الافتخار بالجرح والتعديل ومدح كامل ابن عدي وميزان الذهبي ومدح المحدثين وأنهم لا يأخذون في أصولهم إلا بالقطعيات وفي فروعهم بالمظنون مع المدح للقرآن العزيز.
أقول: إذا تأملت أيدك الله لما سبق عرفت أنه ذم أهل الكلام لكونهم كفروا الناس، ثم خلفهم إلى ما نهاهم عنه، ألا ترى إلى ما أملى من أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، ثم مدح الكامل لابن عدي والميزان للذهبي مع علمه أنهما جرحا من لا يستحق الجرح من أئمة المسلمين وخالفا قوله تعالى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}[النساء:148] وكم تناولوا بالقبيح من لا يحصى من المؤمنين.(1/225)

45 / 46
ع
En
A+
A-