وأما دعواكم أن الصحبة مانعة من الخطأ فمن زلل القول وخطله وفحش الاعتقاد وغلوه، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله خاطبه الله بقوله: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ، إِذًا لاََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}[الإسراء:74،75] وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[الزمر:65] وهو المعصوم، دع عنك ما عاتب الله الصحابة في القرآن وما في السنة من ذلك حتى قال: ((ليردنّ عليَّ الحوض أقوام...))الخبر تقدم، انظر بعين الإنصاف كيف توقف النبي صلى الله عليه وآله عن إيناس المتخلفين حتى نزلت توبتهم من السماء وعائشة زوجته وأم المؤمنين من أمته نزل براءتها آية محكمة فلم لا وَكَلَهم الله ورسوله إلى الصحبة؟ ولم أقام الحد على أهل الإفك؟ لكن أهل السنة لا يبالون بما قالوا ولو استلزم هدم قواعد الإسلام وطمس القرآن والسنة القائمة الأعلام مكيدة كادوا بها الدين، وغارة أغاروا بها على ناموس الموحدين، فأول المكائد الأخذ بالمظنون في صفات الله حتى جسموه وشبهوه بخلقه، ثم اختلقوا أخباراً في نقض آيات الوعيد، ثم تولوا أعداءه وأهانوا أولياءه، ثم حكموا برد أخبار الشيعة لما فيها من الرد على مختلقاتهم، وصغروا معاصي القرن الأول لتتم أسانيدهم. فالله المستعان.
شعراً:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة .... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
تأمل روايتهم بمجادلة موسى وآدم× في المعصية في الصحيح من كتبهم، فإذا روينا بعض مناكير معاوية جرحونا بذلك تفضيلاً لمعاوية اللعين على أنبياء رب العالمين، انظر بعين الإنصاف كيف جادلونا في إسلام أبي طالب ومنعوا من إثباته بغضا أسرَّته أنفسهم لولده وكفراً لنعمة محاماته، ولله القائل:
ولولا أبو طالب وابنه .... لما مثل الدين شخصاً فقاما
فهذا بمكة والى وحاما .... وهذا بيثرب خاض الحماما(1/216)


أما عفان والخطاب وغيرهما من أباء الصحابة فكأن الله لم يخلقهم.
شعراً:
إن بنيَّ ضرجوني بالدم .... شنشنة أعرفها من أخزم
وأما قول السيد محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ : أن النبي صلى الله عليه وآله لم يخض في هذا الأسلوب لا هو ولا أصحابه -يعني علم الكلام- فجوابه من وجهين:
الأول: أنه لم يناظرهم أحد ممن له تعلق بهذا الأسلوب، فلو كان أحد ناظرهم لعلمنا يقينا أنهم كانوا مجيبين من العقل والنقل بما يشفي الغليل وإن القرآن قد اشتمل على جميع ما يحتاج إليه، قال سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38] وقال: {لِئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ}[النساء:165] فلو لم يشتمل على جميع ما يحتاج إليه للزم أن تكون الحجة لمن لم يجد فيه حجته، انظر لقوله سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22] وقال في الرد على النصارى في شأن عيسى وأمه×: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ}[المائدة:75] وقال: {لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} وأمثال ذلك، فهل هذا من أسلوب أهل الكلام أم لا؟ إن كان الأول فقد سلمت لي، أو الثاني فقد كابرت عقلك ونسبت القرآن إلى النقص فاختر أيهما.(1/217)


الثاني: إن علياً عليه السلام وصي رسول الله صلى الله عليه وآله والمبين للأمة ما اختلفوا فيه من بعد نبيهم بالنص النبوي قد ملأ خطبه من فنون أهل الكلام، فمن ذلك قوله عليه السلام : الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أن لا شبيه له...إلى قوله: مستشهداً بحدوث الأشياء على أزليته، وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه...إلى قوله: لم تحط به الأوهام، بل تجلى لها وبها امتنع منها وإليها حاكمها ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا.
وقوله عليه السلام : الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي أو عرش، أو سماء أو أرض، أو جان أو إنس، لا يدرك بوهم، ولا يقدر بفهم، ولا يشغله سائل، ولا ينقصه نائل، ولا ينظر بعين، ولا يحد بأين، ولا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس.
إلى غير ذلك من تعليمه للناس، ومنه أخذ أهل الكلام فَنَّهم، فهل ينكر ذلك منصف أو ينسب أهل الكلام إلى معرفة علم لم يحتو عليه القرآن إثباتاً أو نفياً، أو لم يعرفه النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه.
إذا تأملت لفنون الأصول وغصون المعقول وجدت القرآن لم ينس شيئاً من ذلك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم:64]، {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:5] وإنما أهل الحديث ادعوا لأنفسهم الكمال من قعود، وزيفوا ما عليه الناس وإن كان لذلك من القرآن والسنة شهود، حتى تقحموا سدد الهيبة فنسبوا القرآن إلى النقص والنبي صلى الله عليه وآله وأصحابه إلى الجهل.(1/218)


ولنا عليهم معارضة وذلك أن نقول: إن كان مقصدكم أن النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه لم يدونوا هذا العلم بالأبواب والفصول والقضايا والنتائج والإلزامات فكذلك علم العربية والفقه والحديث والجرح والتعديل وأصول الفقه، فلا يجوز الخوض فيها، وهنالك انسد الباب وقام كل جاهل فقال ما أراد، ولعمري إن ذلك مقتضى أقوالكم، ومبلغ أنظاركم، أو إن قواعد الكلام خالية عن الأدلة النقلية، فهذه الكتب على ظهر البسيطة منادية على مدعي ذلك بالتكذيب، وهذا الفرس وهذا الميدان لكنكم جهلتموه والإنسان عدو ما جهل.

الجدال
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : فإن قيل: أليس قد أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله بالجدال في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125] فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قيد ذلك بالتي هي أحسن ولم يأمره بمطلق الجدال، والنزاع إنما هو في كيفية ذلك وتفسير التي هي أحسن وحجة المحدثين فيه واضحة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد امتثل ما أمر به من الجدال في هذه الآية ومع ذلك فلم ينقل عنه أنه جادل بأساليب المتكلمين والجدليين، فثبت أن التي هي أحسن ليست سبيل المتكلمين وهذا واضح. ثم سرد محاججة النبي صلى الله عليه وآله للمشركين وما تلا عليهم من القرآن.
[المؤلف] وقد تقدم الجواب عن هذا على أنه غفل ـ رحمه الله ـ عن مقام الجدل، فإن النبي صلى الله عليه وآله لو جادلهم بغير ذلك فهموا غير لسانهم ولما لزمتهم الحجة بغير لغتهم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم:4] إنصافاً، فلذا جرى الرسول صلى الله عليه وآله في مناظرتهم مجراهم.(1/219)


وأما ما جرى بينه وبين ابن الزبعرى فما زعمه ابن الزبعرى لازماً فغير صحيح؛ إذ لفظ (ما) لما لا يعقل ولذلك تركه النبي صلى الله عليه وآله لتعسفه وخروجه إلى المماراة والبهتان، ولو أن النبي صلى الله عليه وآله ناظر القوم بغير ما يقتضيه المقام لخرج عن حيز البلاغة التي هي في ذلك الوقت ناموس خطبائهم، وحلية رجالهم، ومآل مفاخرتهم فاتبع النبي صلى الله عليه وآله التي هي أحسن من مراعاة الكلام لمقتضى الحال والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:108] وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان:72] وقال النبي صلى الله عليه وآله: ((المؤمن ليس بلعان ولا طعان)) وغير ذلك، والابتداء باللين ثم الخشونة، وآخرة الداء الكيّ، وذلك السيف، هذا وفي كل حال والمعجزات الإلهية نازلة بهم مع القرآن وهي أفحم من أساليب المتكلمين.
وأما احتجاجه بخبر ابن عباس ـ رحمه الله ـ من أن النبي صلى الله عليه وآله صرح لقريش إلى قوله: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) وخبر أبي موسى فكأنه غفل عن مقام النبي صلى الله عليه وآله فوق عشر سنين بين أظهرهم يدعوهم ويضرب لهم الأمثال، ويخبرهم بالمغيبات، ويتلو عليهم الآيات البينات، وينزل بهم الخوارق والمعجزات، ويهتف بهم الهواتف في القفار وفي الليالي المظلمات بعد أن تحداهم أن يأتوا بمثل سورة من القرآن العزيز فعجزوا وأفحموا عن معارضته فلذا رموه بالسحر والكهانة لما أفحمهم وأعجزهم كما رميتم أهل الكلام.(1/220)

44 / 46
ع
En
A+
A-