الواشمات المغيرات خلق الله تعالى، ولا شك في جواز تغييرنا لكثير من أفعالنا ووجوب ذلك في كثير منها، وكذلك قال الله تعالى بعد ذكر مخلوقاته من الأجسام وتصويرها وسائر ما لا يقدر العباد عليه من الأعراض: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}[لقمان:11] وإنما يعرف الخلق في اللغة لإيجاد الأجسام ويدل على ما ذكرته ما حكاه الله تعالى وذم الشيطان به من قوله: {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}[النساء:119] فدل على أن التغيير الذي هو فعلهم ليس هو خلق الله تعالى بل هو مغاير له ولذلك نظائر كثيرة ذكرتها في (العواصم). ا ه‍.
وأما كون أفعالنا ذواتاً وأنه لا يقدر على إيجاد الذوات إلا الله تعالى، الجواب من وجهين:
الأول: أوضحها، وهو أنهم لا يقولون بذلك بل يقولون: إن أفعالنا هي الوجوه والاعتبارات والأحوال المتعلقة بتلك الذوات وذلك هو معنى الكسب عندهم.
والثاني: أنا منازعون في أن الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ذوات بل هي صفات أو أحوال كما ذهبت إليه الجماهير وأهل التحقيق كابن تيمية وأصحابه منهم، وأبو الحسين وأتباعه، ومن لا يحصى من سائر الطوائف، مع أنا لا نسلم لهم أنه لا يقدر على إيجاد الذوات غير الله، بل قد خالفهم في ذلك الجويني وأبو إسحاق ومن تابعهما فقالوا: إنه يقدر على ذلك من أقدره الله تعالى ومكنه منه وأراده.
قلت: ويقرب من ذلك خلق عيسى عليه السلام الطير وقول جبريل عليه السلام لمريم: {لأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا}[مريم:19].(1/201)


واعلم أيدك الله أن أهل الحديث والأشاعرة خالفوا النصوص من الكتاب والسنة وكلام السلف في هذه المسألة فكم في الكتاب من نسبة أفعالنا إلينا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا} وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ومن السنة كذلك ونصوص الصحابة في فتاويهم وغير ذلك لا ينكر ذلك إلا مكابر، وفي مسألة الإرادة والمشيئة، ولو وقفوا عند النصوص وسكتوا من التمحلات الباطلة لكان أوفق بدعوى السنة، فإن الله تعالى لم يجعل القرآن حجة عليه بل على المشركين، كيف ينعي عليهم عبادة الأوثان التي عملتها أيديهم ليستقيم له النعي في تهجين عبادتهم ويفحمهم فينتصر لهم أهل السنة بأنه الخالق لعباداتهم من تلقاء أنفسهم ولو سلم لهم ما قالوا لكان تفسير المبين للمنزل أولى بالاتباع وذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك في أول كتاب البر، منه: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني أخبرنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل أخبرنا إبراهيم بن يحيى بن محمد المدني الشجري حدثني أبي عن عبيد بن يحيى عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه رفاعة بن رافع وكان قد شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وآله أنه خرج وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة فلما هبطا من الثنية رأيا رجلاً تحت الشجرة ...إلى قوله: فقلنا: من أنت؟ قال: ((انزلوا، فنزلنا، فقلنا: أين الرجل الذي يدعي ويقول ما يقول؟ فقال: أنا، فقلت له: فاعرض عليّ، فعرض علينا الإسلام فقال: من خلق السموات والجبال؟ فقلنا: الله، فقال: من خلقكم؟ قلنا: الله، قال: فمن عمل هذه الأصنام؟ قلنا: نحن، قال: فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق؟ فأنتم عملتموها والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه)). قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد. ا ه‍.
مع أن الأشاعرة يوافقونا في أن المجمل ليس بحجة وهذه الآية من المجمل لاحتمالها.(1/202)


هذا وأعظم ما أتى به الظاهرية من الفواقر إطلاق الآيات الصفاتية لذات واجب الوجود على الحقائق العربية، ومنع حملها على المجازات اللغوية حتى شبهوه بخلقه، وحازوه في مكان، وجعلوه محمولا للملائكة"، ونفوا منه سائر الجهات من غير دليل قاطع نص في المطلوب وما تكلفوا من التنزيه، بلا كيف من التمويه بعد التصريح، ومن فواقرهم الكلام في القرآن، وتكفيرهم لمن قال بحدوثه مع أن الله قد نص في القرآن على حدوثه وهم مقرون أنه لم يظهر الكلام عليه إلا في زمن العباسية فغايته أن يكون الكلام عليه من البدع فلم لا يتمسكون بسنة السلف وهو السكوت، أو رجعوا في ذلك إلى النص القرآني والتدين بأن هذا الذي بين الدفتين المنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله هو كلام الله تعالى من دون إثبات قِدَم ولا حدوث؛ إذ على كل قول إلزام مع أن الكلام في هذه المسألة من فضول الكلام.
وأما صوت القارئ فلا شك أنه عرض يفنى وأنه حاكي وكون الحكاية عين المحكي أو مثله أو غيره، أو أن القدرتين صوتا به، فمن الفضول الذي ينبغي الإعراض عنه، وقول الأشاعرة إن الكلام قائم بالنفس ومحاجتهم عليه كذلك؛ إذ الكلام على هذا الموجود المتلو المنزل لا غيره فافترقا. والله أعلم.(1/203)


[بحث في الصحبة والصحابة]
[ابن الوزير] وأما قول السيد محمد بن ابراهيم ـ رحمه الله ـ : لئلا يؤدي إلى القدح في الصحابة فيقال: إن كان المقصود من تعديلهم الآثار فليس للمقدوحين منهم خبر انفرد به في الأحكام، وأما العقائد فقد نبهناك على عدم الأخذ بالآحاد فيها وهل هذا إلا محض اقبل خبر الصحابي وإن كان كاذباً وإن كان ذلك مجرد حماية لغرض نفسي فينبغي بيانه، وقد ذكر عن أبي المعالي الجويني ما لفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن ذلك وقال: ((إياكم وما شجر بين أصحابي))، وقال: ((دعوا لي أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً لما بلغ مد من أحدهم ولا نصيفه))، وقال: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، وقال: ((خيركم القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم الذي يليه))، وقد روى الثناء على الصحابة وعلى التابعين وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).(1/204)


وقد روي عن الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين فقال: تلك دماء طهر الله منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا، ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها فلا يليق بنا أن نخوض فيها ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن نحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله فيه، ومن المروءة أن يُحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في عائشة زوجته وفي الزبير ابن عمته وفي طلحة الذي وقاه بيده، ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحداً من المسلمين أو نبرأ منه، وأي ثواب في اللعنة والبراءة، إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف: لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لِمَ لعنت؟ ولو أن إنساناً عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يكن عاصياً ولا آثماً، وإذا جعل الإنسان عوض اللعنة أستغفر الله كان خيراً له، ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الأمة وقادتها ونحن اليوم في طبقة سافلة جداًّ عنهم فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم، أليس يقبح من الرعية أن يخوضوا في دقائق أمور الملك وأحواله وشئونه التي تجري بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه وسراريه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله صهراً لمعاوية وأخته أم حبيبة تحته فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها، وكيف يجوز أن يلعن من جعل الله بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله مودة، أليس المفسرون كلهم قالوا: هذه الآية نزلت في أبي سفيان وأهله وهي قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}[الممتحنة:7] فكان ذلك مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وآله أبا سفيان وتزويجه ابنته على أن جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت وما كان القوم إلا كبني أم واحدة ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع. ا ه‍. كما وجد.(1/205)

41 / 46
ع
En
A+
A-