وأما الإضلال ونحوه فقد ذكروا في علم البيان أن كل شيء يكون سبباً في وقوع فعل صح نسبة ذلك الفعل إليه وصح أن ينسب ضلال العبد إلى الله من هذا الوجه فيقال: أضله الله لا على الوجه الذي يتصوره الجهلة القائلون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}[الأنعام:14] {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}[الأعراف:28] ولما قلناه جعل الإضلال المنصوب إلى نفسه للكافر والفاسق دون المؤمن بل نفى عن نفسه إضلال المؤمن فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ}[التوبة:115]، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:4،5] وقال في الكافر والفاسق: {فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8] {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26] {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}[غافر:74] {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}[إبراهيم:27] وعلى هذا النحو تقليب الأفئدة في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}[الأنعام:110]، والختم على القلب في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[البقرة:7] وزيادة المرض في قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}[البقرة:10].
قال شيخنا الهادي رضوان الله عليه في كتابه (التحفة العسجدية): وأما الإضلال فهو بمعنى الهلاك، وبمعنى العذاب، وبمعنى الغواية عن واضح الطريق، والإضلال أيضاً بمعنى الإهلاك والتعذيب والإغواء وبمعنى الحكم والتسمية فمعنى {يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}[إبراهيم:27] ومن يشاء أي يحكم عليهم بالضلال ويسميهم به لما ضلوا عن طريق الحق أو بمعنى يهلكهم أو يعذبهم، وأما ما كان منسوباً إلى غيره تعالى فيجوز أغواهم وأضلهم عن طريق الحق، قال تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}[طه:79]. ا ه‍.(1/196)


وقال عليه السلام : فصل: قالت العدلية: إن بعض ما تعلقت به الجبرية سياق السبب والمسبب فلما حصل منهم الكفر والتمادي ولم يقبلوا هداية الله حسن منه تعالى العقوبة بالطبع والإزاغة والختم ونحو ذلك قال تعالى: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}[النساء:155] {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف:5] ...إلى آخر الفصل فراجعه فإنه بحث كامل نفيس.

البحث الثالث في الخلق وما يتصل بذلك
قال الراغب الأصفهاني: الخلق أصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي أبدعهما بدليل قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء نحو: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[الزمر:6] إلى أن قال: وليس الخلق الذي هو الإبداع إلا لله تعالى ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}[النحل:17].
وأما الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى عليه السلام حيث قال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}[آل عمران:49] ب‍(أني) والخلق لا يستعمل في كافة الناس إلا على وجهين:
أحدهما في معنى التقدير كقول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت .... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

والثاني في الكذب نحو قوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}[العنكبوت:17]. ا ه‍.(1/197)


أقول: ولا مانع لصحة إطلاقه معنى التقدير كما ذكروا لقوله تعالى: {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}[الرعد:16] وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14] وقد استدل أهل السنة على قولهم أن أفعالنا مخلوقة لله تعالى بقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الرعد:16] {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}[فاطر:3] وبأن أفعال العباد ذوات حقيقة ولا يقدر على إيجادها أي الذوات إلا الله سبحانه وتعالى.
والجواب على جهة الإجمال وإلا فليس هذا موضعه ولا معارضة وذلك أن نقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} عام ولا يصح تخصيص المسور بكل إلا متصل وبذلك يلزم أن الله خلق صفاته القديمة بل نفسه؛ لأنه سبحانه شيء {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}[الأنعام:19] وهذا كفر بالإجماع ويلزم منه خلق القرآن وقد منعتم منه وخلق المعاصي والقبائح وخلق الكسب الذي زعمتم وما أجبتم به فهو جوابنا.
ثانياً: إن الآية مساقة للتمدح بعموم القدرة لما من شأنه الخلق فخرج ما يصح من غيره بضرورة العقل والنقل كما قيل في تفسير قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}[النمل:23]، أما الصفات فلا خلاف في ذلك، وأما أفعالنا فنسبتها إلينا عقلي ونقلي، أما العقل فظاهر وإنكار ذلك سفسطة، وأما النقل فإجماع المسلمين من عدلي وسني وجبري وغيرهم إطلاق نسبة أفعالنا إلينا.(1/198)


قال السيد محمد في (الإيثار): ألا ترى أن جميع عبارات الكتاب والسنة وأهل اللغة في الجاهلية والإسلام والمسلمين من أهل السنة والبدعة من العامة والخاص والصحابة والتابعين بل والجبرية والجهمية المبتدعة كلهم عبروا عن أفعال العباد بأسمائها الخاصة بها وبكسب العباد لها وفعلهم واختيارهم دون خلق الله تعالى لها فيهم فيقولون: إذا زنا الزاني مختاراً غير مكره وجب عليه الحد، وكذلك إذا قتل وجب عليه القصاص، وإذا كفر وجب جهاده ونحو ذلك، ولا يقول أحد منهم حتى الجبرية الضلال إذا خلق الله الزنا في الزاني جلد، وإذا خلق القتل في القاتل قتل، وإذا خلق الكفر في الكافر حورب وهذه كتبهم شاهدة بذلك ولو أن أحداً قال ذلك وحافظ عليه فلم ينطق بمعصية منسوبة إلى فاعلها ويدل نسبة المعاصي إلى أهلها بنسبتها إلى خلق الله تعالى في أهلها في جميع كلامه أو كثير منه، لكان ذلك من أوضح البدع، وأشنع الشنع.
………... وشر الأمور المحدثات البدائع(1/199)


وأما سائر من قال: إن أفعال العباد مقدور بين قادرين. من غير تمييز بالذات فالكلام معهم مثل الكلام مع الأشعرية؛ لأنهم وإن لم يفرقوا بين فعل الرب عزّ وجلّ وفعل العبد بالذات فإنهم يفرقون بينهما بالوجوه والاعتبارات وذلك أمر ضروري فإنهم لا بد أن يقولوا إن العبد فعل الطاعة على وجه الذلة والخضوع والامتثال والتقرب والرغبة والرهبة وأن الله تعالى منزه عن جميع هذه الوجوه وأن الله تعالى فعل ذلك الفعل، إما لغير علة كما هو قول بعضهم، وإما على جهة الحكمة والرحمة والنعمة؛ إذ [هو] على جهة الحكمة والابتلاء والامتحان فثبت بهذا أن فعل العبد مركب من أمرين اثنين: أحدهما من الذات التي هي مقدور بين قادرين، وثانيهما من تلك الوجوه والاعتبارات التي يكفر من أجازها على الله سبحانه أو سماه بها بالإجماع والله تعالى لا يشارك العبد إلا في أجمل هذين الأمرين وأحمدهما فكيف ينسب إليه أخبثهما وشرهما وأقبحهما بغير إذن منه...الخ .. إلى أن قال: ألا ترى أن جعل العبد من أهل السنة مؤثراً في الذات بإعانة الله تعالى لا يسميه خالقاً بإعانة الله ما ذلك إلا لأن هذه الذات هي الأكوان وكونها ذواتاً غير صحيح في لغة العرب وفي النظر الصحيح عند محققي أهل المعقول وتسمية الأشعرية لها خلقاً لله تعالى لم يصح لغة، يوضحه أن إمام الحرمين الجويني والشيخ أبا إسحاق ومن تابعهما من أهل السنة لم يسموا العبد خالقاً مع أنهم يقولون: إن قدرته هي التي أثرت في ذات فعله وحدها بتمكين الله تعالى ومشيئته من غير زيادة مشاركة بينه وبين قدرة الله تعالى في تلك الذات التي هي فعله وكسبه، فثبت أن الله خالق كل شيء مخلوق في لغة العرب التي نزل عليها القرآن ولم يكن أحد منهم يقول خلقت قياماً ولا كلاما، ولا صلاة ولا صياماً ونحو ذلك، ولذلك ورد الوعيد للمصورين المشبهين بخلق الله تعالى، فلو كانت أفعالنا خلق الله لم يحرم علينا التشبيه بخلق الله تعالى، وكذلك لعن(1/200)

40 / 46
ع
En
A+
A-