الثاني: الدعاء على ألسنة الأنبياء والكتب وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}[الأنبياء:73].
الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعني بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد:17] وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن:11] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}[يونس:9] وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت:69] {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}[مريم:76] {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}[البقرة:213] {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213].
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعني بقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:5] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ...} إلى قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}[الأعراف:43].(1/191)
وهذه الهدايات الأربع مترتبة فإن من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث قبله، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله، ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا تحصل له ما بقي، والإنسان لا يقدر أن يهدي أحد إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر الهدايات وإلى الأولى أشار بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52] [وقوله:] {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}[الأنبياء:73] [وقوله:] {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد:7] وإلى سائر الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص:56] وكل هداية ذكر الله عز وجل أنه منع الظالمين والكافرين والفاسقين فهي الهداية الثالثة وهي التوفيق الذي يختص به المهتدون، والرابعة التي هي الثواب في الآخرة وإدخال الجنة نحو قوله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا...} إلى قوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:86] وكقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[النحل:107] وكل هداية نفاها الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وآله وعن البشر وذكر أنهم غير قادرين عليها فهي ما عدى المختص من الدعاء وتعريف الطريق كالتوفيق وإدخال الجنة كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:272] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}[الأنعام:35] {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ}[الروم:53] {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}[النحل:37] {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}[الزمر:37](1/192)
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص:56] وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99] وقوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}[الإسراء:97] أي طالب الهدى ومتحريه هو الذي يهديه ويوفقه إلى طريق الجنة لا من ضاده فيتحرى طريق الضلال والكفر كقوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:264] وفي أخرى: {الظَّالِمِينَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}[الزمر:3] الكاذب الكفار هو الذي لا تقبل هدايته وجحد ربوبيته أو وحدانيته، فإن ذلك رجع إلى هذا وإن لم يكن لفظه موضوعاً لذلك ومن لم يقبل هدايته لم يهده كقولك من لم يقبل هديتي لم أهد له، ومن لم يقبل عطيتي لم أعطه، ومن رغب عني لم أرغب فيه، وعلى هذا النحو {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وفي أخرى: {الْفَاسِقِينَ} وقوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى}[يونس:35] وقد قرئ: {يَهْدِي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى} أي لا يهدي غيره ولكن يهدى أي لا يعلم شيئاً ولا يعرف أي لا هداية له ولو هدي أيضاً لم يهد؛ لأنها موات من حجارة ونحوها.(1/193)
هذا ولما كانت الهداية والتعليم يقتضي شيئين تعريفاً من المعرِّف وتعريفا من المعرَّف وبهما تتم الهداية والتعليم، فإنه متى حصل البذل من الهادي والمعلم ولم يحصل القبول صح أن يقال لم يهد ولم يعلم اعتباراً بعدم القبول، وصح أن يقال: هدى وعلم اعتبار بدعائه وبذله وتمكينه فإذا كان كذلك صح أن يقال: إن الله لم يهد الكافرين والفاسقين والظالمين من حيث إنه لم يحصل القبول الذي هو تمام الهداية والتعليم وصح أن يقال هداهم وعلمهم من حيث إنه حصل البذل والتعليم والتمكين التي هي مبدأ الهداية فعلى الاعتبار بالأول يصح أن يحمل قوله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وما في معناها، وعلى الثاني قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} والأولى حيث لم يحصل القبول المفيد فيقال: هداه الله فلم يهتد كقوله: {وَأَمَّا ثَمُود...} سوى، وقوله: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاء}، وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} فهم الذين قبلوا هداه واهتدوا به، وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} إما تعبد بطلب الحاصل أو بمعنى التوفيق والقبول، وقيل: دعاء بالحفظ عن غواية الغواة، والهدى والهداية في موضوع اللغة واحد لكن خص الله لفظة الهدى بمن تولاه وأعطاه واختص هو به دون ما هو إلى الإنسان نحو: {هُدًى لِلْمُتَّقِين}[البقرة:2]، { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِم}[البقرة:5]، {وَهُدًى لِلنَّاس}[الأنعام:91]، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}[البقرة:38]، فلأن {هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}، {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِين}، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}[الأنعام:35]، {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}[النحل:37]،(1/194)
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}[البقرة:175]، والاهتداء يختص بما يتحراه الإنسان على طريق الاختيار أما في الأمور الدنيوية أو الأخروية قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا}[الأنعام:97] وقال: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}[النساء:98] ويقال ذلك لطلب الهداية نحو: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}[البقرة:53]، وقال: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة:150]، {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا}[آل عمران:20]، {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا}[البقرة:137]، ويقال: المهتدي لمن يقتدي بعالم أو غيره نحو: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}[المائدة:104]، تنبيهاً أنهم لا يعلمون بأنفسهم ولا يقتدون بعالم، وقوله: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}[يونس:108] فإن الاهتداء هاهنا يتناول وجوه الاهتداء من طلب الهداية ومن الاقتداء أو من جزئيها وكذا قوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ}[النمل:24]، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طه:82] فمعناه ثم أدام طلب الهداية ولم يفتر عن تحريه ولم يرجع إلى المعصية، وقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ...} إلى قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:156،157] أي الذين تحروا هدايته وقبلوها وعملوا بها، وقال مخبراً عن القائل: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}[الزخرف:49].(1/195)