إذا تقرر هذا فاعلم أن الإرادة لا تتعلق بفعل الغير من طاعة أو معصية إلا بمعنى التمكين فما ورد من الآيات التي تعلق بها الخصم فمحمول على التمكين أما أنها تخصص فعل الغير فغلط فاحش ولو كان ذلك كذلك لصح أن يشترك الناس في نية أحدهم أو عزمه والذي يظهر أن الإرادة ترد لمعاني، منها: الإرادة الملازمة للمحبة وحصول المراد، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}[البقرة:185] {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ}[النساء:26] {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}[الأنفال:67] وما روى مسلم بن الحجاج مرفوعاً في حساب العاصي: ((قد أردت منك أيسر من ذلك)) وهي الملازمة لمحبة المراد والأمر به وتحسينهُ أو شيئاً مما يقارب هذا المعنى، وهي الإرادة الشرعية للواجبات والمستحبات، وهي إرادة الشيء لنفسه لا لوجوه واعتبارات، وهذه هي الإرادة الحقيقية بالإجماع، فالقبائح لا تكون مراده بهذا المعنى وهذا قول العدلية جميعاً ولم يعترفوا بمعنى الإرادة غير هذا المعنى.(1/186)
الثاني: بمعنى العلم وهو الإخبار بما كان وما سيكون كما قال الحسن بن يحيى ومحمد بن منصور: للعباد أفعال ومشيئات نسبها الله إليهم وعلم الله إرادته ومشيئته محيطة بإرادتهم فلا يكون منهم إلا ما أراد وعلم أنه كائن منهم وقد أراد خلقهم وخلقهم بعد علمه بما هو كائن منهم وعليه نزل قوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[النساء:88] لأنه لما سبق في علمه أن العبد لا يؤمن إما لكون قابليته لا تقبل هداية الفطرة، أو أنه يتولى الشيطان بعد ذلك حكم عليه بذلك لا بنفس العلم أو غير ذلك بل بنفس العمل {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ...}[التوبة:76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}[التوبة:77] {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26] {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}[النساء:88] وغير ذلك، وإلى أن الإرادة بمعنى العلم أشار بعض قدماء أئمتنا".
المعنى الثالث: إرادة السبب لا غير، كأمر الله تعالى إبراهيم الخليل عليه السلام بذبح ولده لابتلائه بذلك ثم حال بين الموس وبين الأوداج بما حال، وفداه بما فداه، فإرادة الله السبب وهو الامتثال لا المسبب وهو الذبح ولا يخلو هذا الوجه من مؤاخذة المعنى.
الرابع: إرادة بمعنى المشيئة؛ لرجوع كل من الإرادة والمحبة والاختيار إلى الآخر، قال الشاعر:
يريد المرء أن يعطى مناه .... ويأبى الله إلا ما أرادَ(1/187)
أي يحب أن يعطى مناه، والإرادة والمشيئة لغة: هو ما يقع الفعل به على وجه دون وجه، بيان ذلك أن الصائم العاطش يحب شرب الماء في حال صومه بالطبيعة ولا يريده بالعزيمة ونحو ذلك، وقد ذهبت الأشعرية أن الآيات التي في نفوذ المشيئة في قوة أن الله تعالى مريد لجميع الموجودات بأسرها سواء كانت حسنة أو قبيحة، وأنه غير مريد لما لم يوجد سواء كان حسناً أو قبيحاً وقد مر لك كلام الصابوني.
قال الحذامي ـ لما قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} معناه: وما تشاءون الطاعة إلا أن يشاء الله...الخ، فنقول: الله تعالى نفى وأثبت على سبيل الحصر الذي لا حصر ولا قصر أوضح منه، ألا ترى أن كلمة التوحيد اقتصر بها على النفي والإثبات؛ لأن هذا النظم أعلق شيء بالحصر وأدل عليه، فنفى الله أن يفعل العبد شيئاً له فيه اختيار ومشيئة إلا أن يكون الله تعالى قد شاء ذلك الفعل، فمقتضاه ما لم يشأ الله وقوعه من العبد لا يقع من العبد وما شاء منه وقوعه وقع وهو رديف ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ا ه.
واعلم أن تلك الآيات سيقت للتمدح بكمال القدرة لا بإرادة القبائح لمنافاتها غرض السياق مع أن المعاصي مبغوضة مكروهة وأهلها كذلك؛ إذ المراد المطلق المراد لنفسه من جميع الوجوه الذي لا يكره من وجه قط والمعاصي ليست من هذا بالإجماع؛ لأن كراهة المكلفين لها واجبة وفاقاً مع وجوب الرضا عليهم بقضاء الله وإرادته ومشيئته، ولأن الله تعالى يكره المعاصي بالنص فلم تكن المعاصي من هذا الجنس من المرادات، كيف وإرادة القبيح ومحبته ليست بصفة مدح بالإجماع؟ وقد نص أئمتهم أن الله سبحانه لا يوصف بصفة نقص ولا بصفة لا مدح فيها ولا نقص فإرادة القبيح لغير وجه حسن إن لم تكن نقصاً كانت مما لا مدح فيها قطعاً فيجب أن لا يوصف بها الرب سبحانه على قواعد الجميع.(1/188)
قال الرازي: واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر، فالقدري يتمسك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}[الإنسان:29] ويقول: إنه صريح مذهبي، ونظيره: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29] والمجبري يقول: متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر وذلك أن قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}[الإنسان:29]، يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله بعد ذلك: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان:30] يقتضي أن مشيئة الله تعالى مستلزمة بمشيئة العبد ومستلزم المستلزم مستلزم فإذا مشيئة الله مستلزمة لفعل العبد وذلك هو الجبر، وهكذا الاستدلال على الجبر بقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}؛ لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ثم التقرير ما تقدم. ا ه.
والجواب عليه: أما على قول أهل الكسب فمعارضة؛ لأنا نقول: إذا كانت الاعتبارات والأحوال قلبية لا تتميز صارت موجبة؛ لأنها مشيئة وذلك هو الجبر بعينه في الأفعال والاعتبار والأحوال.
أما الجبرية فقد أثبتنا الاختيار بالأدلة القاطعة، منها قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} بمشيئتين حادثتين، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ} مشيئة محدثة فلن تتجاوز المشيئة القديمة -يعني العلم- فافترق الحال بين الحادث والقديم والعزم وعدمه بمعنى وما تحدث لكم مشيئة إلا أن يشاء الله أن تشاءوا أي أن تكون لكم مشيئة واختيار، فمتعلق المشيئتين هو مشيئة العباد واختيارهم لا إكراههم قال سبحانه وتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}[البقرة:256] وقال: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر:7].(1/189)
وأما قوله: ومستلزم المستلزم مستلزم، فلا نسلم توقف المشيئة من العبد التي بمعنى المحبة والإرادة على مشيئة الله العلمية؛ لأن إرادة الغير لا تلزم الغير الآخر لعدم المناسبة وإلا لزم في إرادة واحدة أن تكون لأكثرين ولا مانع إلا التحكم على أن (ما تشاءون) في قوة (كل ما تشاءون) تقع موجبة كلية نقيضها موجبة جزئية وما بعدها محمول عليها بتحويل لفظ إلا إلى غير يكون بعض (ما تشاءون) غير (أن يشاء الله) وبهذا يفسد معنى التمدح فوجب حملها على ما قدمنا، والقرآن يفسر بعضه بعضها، أو تكون {وما تشاءون...} إلخ سالبة كلية النقيض بعد تبديل طرفي القضية ليس بعض ما يشاء الله أن تشاءون وهو الأنسب لموافقته العموم والخصوص فالطاعة يشاءها الله ويريدها ويحبها، ويكره المعصية كما قال: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}[الحجرات:7] وقال بعد تعداد المعاصي: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء:38] وقال في سورة الزخرف حاكياً عن المشركين: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}[الزخرف:20].
هذا وإذا قد عرفت من غضون البحث هذا أن الله سبحانه قد يخذل المكابر لعقله والجاحد بآيات ربه لسوء أفعاله فيتعرض لذكر الهداية فنقول:
البحث الثاني في الهداية
وهي أنواع:
الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مكلف من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعم منها كل شيء بقدر فيه حسب احتماله كما قال تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50] وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}[الإنسان:3] {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الصافات:118].(1/190)