قال أبو عثمان الصابوني: أصحاب الحديث -حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية وللرسول صلى الله عليه وآله بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله أو يشهد له بها رسول الله صلى الله عليه وآله على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه فيقولون: إنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص:75]، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين تحريف المعتزلة الجهمية أهلكهم الله، ولا يكيفونهما بكيف أو يشبهوهما بأيدي المخلوقين تشبيه المشبهة خذلهم الله، وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف ومنّ عليهم بالتعريف والتفهم حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعليل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]. ا ه‍.
قلت: أول الغباوة من هذا الشيخ الذي زعموه شيخ الإسلام نسبة المعتزلة إلى جهم بن صفوان رئيس المجبرة وأعظم خصومهم المعتزلة.
ثانياً: الإثبات المقابل لسلب المثبت بعينه فإن إثبات الآلات لله سبحانه على الحقيقة كما قال ثم التعقيب بعدم التكييف والتأويل من التناقض.
فإن قال: إن القرآن عربي وجب أن يراعي فيه لسانهم وما جرت عليه أساليب كلامهم على قالب الفصاحة والبلاغة فإن سلم هذا فاليد عندهم تطلق على معان منها النعمة والقوة والجارحة، فالآية دالة على كل المعاني إلا أنه قد اختار الجارحة لكن بغير تكييف ولا تمثيل وهذا باطل؛ إذ لا بد إما من التأويل أو التكييف؛ إذ لا واسطة بين الوجود والعدم.(1/176)


فإن قلت: موجود لا جسم ولا عرض خرجت عن الظاهر أوهما فهو التجسيم والتشبيه بعينه وبهذا تعرف أنهم على مقتضى كلامهم خرجوا عن ظاهر القرآن لتقييد المطلق بـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11] لكن الظاهر التجسيم من قولهم: (لكن جسما لا كالأجسام) المحسوسة وبذلك خرجوا عن الظاهر للمخاطبين، ولضعف عقله وقلة إدراكه وفهمه اعتقد أن الآية من أدلة سخافته وأعلام بلادته ولم يشعر أنها من هوادم أساس بدعته، كيف وهي من كلام الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، شان البلغاء ببلاغته، وباين البلداء بقديم ولادته وبراعته، كيف يحمل على الحقائق الظاهرية ويترك معانيه المجازية والإطلاقية والتقييدية، ولسوء تفسيرهم واعتقادهم أثبتوا لله أيدياً كثيرة في جنب واحد وأعيناً كثيرة في وجه واحد ورجلاً واحدة من قوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ}[الذاريات:47] [وقوله]: {... يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}[الزمر:56] [وقوله] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}[القمر:14] [وقوله] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[القصص:88] [وقوله] {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}[القلم:42] [وقوله] {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات:180].(1/177)


وقال الصابوني أيضاً: وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر، والعين والوجه، والعلم والقوة، والقدرة والعزة، والعظمة، والإرادة والمشيئة، والقول والكلام، والرضى والسخط، والحياة واليقظة، والفرح والضحك وغيرها من غير تشبيه بشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وآله من غير زيادة عليه، ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما يعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل منكر ويجرونه على الظاهر ويكلون علمه إلى الله، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولون .. إلى آخر الآية.
أقول: انظر لهذه المناقضة في قوله: ولا إزالة للفظ الخبر عما يعرفه العرب ويضعه عليه بتأويل منكر ويجرونه على الظاهر، فأوله أثبت معرفة العرب ثم نفى التأويل وأجراه على ظاهره وقد أجمعنا أن القرآن في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، ونص البيانيون على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، فنقول: أما نفيتم عن القرآن المجازية وحملتموه على الحقيقة، فما جناح الذل؟ .. إلى غيره من المجازات والاستعارات، أو أثبتوا ذلك عربياً لزمكم التأويل أو التعطيل.
ويقال للإمام محمد بن إبراهيم: كيف قد أوردت من المجازات والاستعارات عند القول على الأخبار الموهمة للتشبيه وهذا الذي صدره الصابوني عن أهل نحلتك الذي صرحت بأن مذهبك مذهبهم هل هذا إلا من التعسف الديني والمخالفة المباني وذلك فتح التأويل فيما تحبون والنهي عنه فيما تكرهون كأنكم الحكام على الكتاب والسنة.
قال الصابوني: ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم..(1/178)


إلى أن قال: وهو الذي تحفظه الصدور وتتلوه الألسنة ويكتب في المصاحف كيفما تصرف بقراءة قارئ ولفظ لافظ وحفظ حافظ وحيث تلي وفي أي موضع قرئ وكتب في مصاحف أهل الإسلام وألواح صبيانهم وغيره كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم...إلى أن قال: ومن قال إن القرآن بلفظي مخلوق أو لفظي به مخلوق فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم.

[خلق القرآن]
قال الرازي:
المسألة العاشرة: الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديماً لوجوه:
الأول: أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية فالسابق المنقضي محدث؛ لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لا شك أنه حادث.
والثاني: أن الحروف التي تألفت منها الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة؛ لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة فلو حصلت الحروف معاً لم يكن وقوعه على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة.(1/179)


وقال: زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله وهذا باطل؛ لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد بالضرورة، وأيضاً فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناصوة صريح، وزعموا أنها حالة في ناصوة عيسى عليه السلام ومع ذلك فهي صفة لله تعالى وغير زائلة عنه وهذا عين ما تقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حال في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى ولا فرق بين القولين إلا أن النصارى قالوا بهذا القول في حق عيسى عليه السلام وحده وهؤلاء الحمقى قالوا هذا الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب. ا ه‍ كلامه.
أقول: إذا كان لفظي به غير مخلوق فقد أبطلتم خلق الله أفعال عباده؛ لأن اللسان واللهوات والشفتين مخلوقات ولفظ الحي وصوته مخلوق، وكذا الكاغد والمداد واليد والقلم المكتوب به مخلوقات فيلزم أن ذلك المذكور إما غير مخلوق لله وهو كلام المعتزلة، أو مخلوق له فكل مخلوق محدث وهذه مناقضة ظاهرة والتعدد في القدم يعرف هذا ضرورة وإنكاره مكابرة وإنكار للضرورة، وقد استقصينا كلامه ليعتبر به الناظر ويعرف مقدار المحدثين أصحاب الإمام محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ وكم بين كلامه وكلامهم من التفاوت، وكم كفَّروا من أهل الإسلام والدين فقد باء بها أحد الفريقين مع اعترافهم أن السؤال عن اللفظ بالقرآن عن كونه مخلوقاً مما لم يبلغهم فيه شيء إلا عن ابن حنبل وبهذا خالفهم محمد بن إسماعيل البخاري ومن قال بقوله إن اللفظ به مخلوق، فثبت من قواعدهم أنهم مبتدعون في هذه المقالة وفي أمها كذلك لعدم الدليل على قدمه فهم في حيرتهم يترددون.(1/180)

36 / 46
ع
En
A+
A-