إذا عرفت هذا فمن أين اشتغلتم يا أهل الحديث بعمارة الدين؟ أم أين المصلوب منكم في ذات الله رب العالمين؟ أم أين المقتول منكم في مباينة الظالمين؟ أم أين المهجور منكم في الإزراء على الفاسقين؟ بل نثرت دراهمهم على رؤوسكم، ونشرت ملابسهم على صحفكم!!
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الخامس: إنها وردت نصوص تقتضي العلم أو الظن أن الخوض في الكلام على وجه التحكيم للأدلة العقلية في المجازات الخفية، وتقديمها على النصوص السمعية مضرة عظيمة ودفع المضرة المظنونة واجب عقلي بإجماع الخصوم ودليل المعقول.
فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام خوف مضرة أيضاً.
[المؤلف] فالجواب: إن تسمية المرجوح خوفاً غير مسلم وإلا تسمينا خائفين لسقوط الأبنية القائمة الصحيحة علينا، سلمنا أنه يسمى خوفاً لكن دفع المضرة الموهومة أو المجوزة لا تجب لا سيما إذا لم يندفع إلا بارتكاب ما فيه مضرة مظنونة فإن ذلك قبيح بالضرورة مع تساوي المضرتين واحتمال تساويهما. ا ه.
قلت: والجواب عن هذا الوجه: إن ورود النصوص إن كانت معارضة للقطعيات فغير مأخوذ بها لئلا يعارض القطعي بالظني، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36] وقال الله في ذم المشركين: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28] أو ورود النص المماثل وجب تأويله لئلا يتعارض القطعيان.
وأما قولك: ودفع المضرة المظنونة واجب عقلاً لمسلم لكن نحن ننفي المضرة المظنونة لوجوب اتباع القواطع وتأويل المظنون لتجتمع الأدلة ونعمل بجميعها.(1/171)
وأما قوله: إن خوف مضرة ترك علم الكلام مرجوحة. فنقول: أما ما كان دليله قطعي فمضرة ترك معرفته راجحة وغيره لا مضرة فيه كما قدمنا وما كان منه ظنياً فمرجعه نظر الناظر وترجيحه إليه والخطأ في الظنيات معفو عنه وغير مسلم لك ترتيب المضرات ولا وجود النص المُدّعى، وإنما ذلك من أوائل باب طليعة المخازي الآتية لأهل الحديث.
وأما قوله في الوجه السادس: إن من المعتزلة والزيدية من يقول: المعارف ضرورية، فلم يطرحوا وجوب النظر إلا فيما هو ظاهر بالضروريات ومن مبتداها، وقوله عنهم بجواز تقليد المحق فيتنزل فيما مرجعه الغموض أما ما يعرف بديهة فقد أثبتوه لجميع العقلاء يعرف ذلك من تأمل كلامهم.
[ابن الوزير] قوله من الوجه السادس: وأما المسألة الثانية وهي قوله: ما يصنع المحدثون عند ورود الشبه الدقيقة من الفلاسفة وغيرهم وذكرهم لحكاية ملك الروم وإرساله إلى الرشيد بطلب المناظرة وأن الرشيد أمر بمحدث فسألوه عن الدليل على ثبوت الصانع فاحتج عليهم بقول النبي صلى الله عليه وآله: ((بني الإسلام على خمس دعائم...)) الحديث، فكتبوا إلى الرشيد في ذلك وطلبوا غيره فأرسل لمتكلم فدسوا عليه من فهمه فوجده كما يحذرون فسموه قبل الوصول إليهم، والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول معارضة وهو أن يقول: أخبرنا ما كان يصنع الصحابة والتابعون ومن أجاز التقليد في الأصول من المتكلمين وأهل المعارف الضرورية منهم، وأول من ابتكر علم الكلام منهم فإنه لا يمكن من لا يعرف الكلام أن يصنع مثله.
فإن قالوا: إن في الصحابة وكل من ذكرتم من يتمكن من ذلك من غير تعليم ولا رياضة في الكلام لفرط ذكائه.
قلنا: وما المانع أن يكون في كل عصر من هو كذلك .. إلى آخر كلامه.(1/172)
[المؤلف] أقول: أما وجوب تعلم المعقولات فلا كلام فيه، وأما إيراد وإصدار ما يفحم الخصم ويلجئه إلى المكابرة أو التسليم فمحتاج إلى ذلك ليقطع الكلام في مواضعه وعند كل مشكلة ما يحلها ولا شك أن الناس متفاوتون في الفهم والقرآن الكريم ينبي على وضع كل شيء في موضعه على ما تقتضيه أساليب البلغاء، والناس متفاوتون في الأخذ منه على قدر أفهامهم ورسوخ أقدامهم في العربية، أما جهال الحنابلة وبلهاء أهل الحديث فليسوا من هذا الشأن في شيء وإنما يثير دفائن عقول العقلاء، والخطابات القرآنية لم تتوجه إلا إليهم، وفعل الرشيد فضيحة تعمد بها الإسلام ومكرة هدّ بها أركان الناموس المحمدي وهتك بها أستار المحدثين ضعفاء الأحلام لدعواهم وراثة الحكمة والاحتواء على ما بعث به سيد الأنام صلى الله عليه وآله.
من تزيا بغير ما هو فيه .... فضحته شواهد الامتحان
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه الثاني: إن أُصولكم تقتضي عدم الخوف من ذلك؛ لأن عندكم أن النظر واجب على القيد والبيان واللطف واجبان على الله، فنقول: لا حاجة على هذا إلى تعلم الكلام بل نقف حتى ترد الشبهة فإن لم يقدح في أحد أركان الدليل لم توجب شكا ولا تستحق جواباً، وإن قدحت فعلنا ما يجب علينا وهو النظر عند المعتزلة...إلخ.(1/173)
[المؤلف] أقول: القول بوجوب اللطف والبيان كالقول بوجوب بعثة الرسل وسلامة العقل، فإن عدم أحدهما فيما مرجعه إليهما ارتفع التكليف، وهذا الأمر مجمع عليه مصرح به في كتب أهل الإسلام، ومقتضى الدليل واللطف هو التمكين ولم نسد عليكم ذلك إنما المراد أن الغير الناظر رد اللطف وهو التمكين مع القدرة، وأما الوقوف حتى ترد الشبهة فلا يمنع ذلك مع صحة الاعتقاد فإنها وإن لم ترد من الخارج فقد ترد من الخواطر النفسانية بواسطة الوساويس الشيطانية كما قد وقع من أهل البدع وبعض العوام دع عنك الإيرادات الخارجية، وقد رجعتم إلى وجوب النظر عند الحاجة وذلك هو المطلوب، أما من لم يحتج فلا يكلف به؛ لأن تحصيل الحاصل محال.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: فإن قيل: فهل تقولون بقبح النظر فقد أبطلتم كل النظر ببعض النظر؛ لأن أدلتكم هذه نظرية وهذا متناقض.
والجواب: إنا لا نقبح النظر وكيف وقد أمر الله تعالى به ونحن إنما دفاعنا عن الكتاب والسنة لكن نبطل مبتدع النظر بمسنونه فيبطل من الأنظار ما أدى إلى القدح في الصحابة وإلى تكفير المسلمين وإلى القطع في صفات الله تعالى بغير تقدير ولا هدى ولا كتاب منير، وقد بينا في الوهم الثاني عشر أن الذي يبطله أهل السنة من النظر نوعان:
أحدهما: ما كان متوقفاً على المراء واللجاج الذي لا يفيد اليقين ويثير الشر.
وثانيهما الانتصار للحق بالخوض في أمور يستلزم الخوض فيها الشكوك والحيرة والبدعة لما في تلك الأمور من الكلام بغير علم في محار العقلاء ومواقفها، وقد أوضحت ذلك في الوهم الثاني عشر وذكرت أقوال فحول المتكلمين فيه واعترافهم بذلك فخذه من هنالك فقد أبطل أهل الحديث بعض النظر ببعضه كما فعل أهل الكلام في إبطال أنظار خصومهم بأنظارهم وهذا صحيح عند الجميع. ا ه.(1/174)
[المؤلف] أقول: هذا الذي من أجله سياق الكلام من أول الكتاب إلى آخره ونتيجة تلك المقدمات، وفي قوله: فإن قيل ... إلى آخر الجواب، نقض لما قدم من الشبه جميعها وهدم لمبانيه من أساسه، ومن تأمل الكتاب إلى هنا علم أن الشبه التي حررها أخص من الدعاوى التي أعلن بها، وأنه قد أثبت وجوب النظر ووافقنا في ذلك والحمد لله رب العالمين، وليس المنكر منه إلا الضعيف وما تركب على غير هدى ولا كتاب منير، ونحن نوافقه على رد الأنظار الضعيفة والآراء الركيكة وما كان على غير علم ولا هدى، وقد رأيت من الإنصاف تحرير عقائد المحدثين لتطلع عليها على جهة الاعتبار، وتعلم مجانبتها عن الأدلة العلمية والنصوصات البيانية، والمخالفة للمجازات والبلاغات القرآنية، ليستبين لك الهدى والضلال المبين وأنهم كفروا خيار المسلمين وجانبوا غير سبيل المؤمنين.(1/175)