[المؤلف] قلت: أما الدليل على وجوب التعليم فإن العقلاء قاطبة يذمون من رأى غريقاً قادراً على إنقاذه ولا ينقذه أو ضالاً عن المحجة فلا يرشده والكافر بمنزلة الغريق، وأما من الشرع فأدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تحصى، وقد تقدم بعض إشارة، وأما الإفحام فهلا يجب لمناظرة الرسول صلى الله عليه وآله طوائف الكفر حتى أبلغ فلما فحموا عن معارضته لاذوا بالسيوف وأهدوا مهجهم للحتوف، وأهل نجران أقروا بالجزية وتركوا موضع المباهلة، فإن كان ذلك غير واجب على الرسول صلى الله عليه وآله فقد تكلف أو كان واجباً فهو خلاف مبانيك وما يغنيك إنكار ما علم من تواريخ الإسلام وتفسير الكتاب العزيز {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8].
[ابن الوزير] قال: وأما أنه لا يستحب فلما يخاف من المضرة الحاصلة بمعرفته كما تقدم تحقيق ذلك في الوهم الثاني عشر.
[المؤلف] قلت: قد مر الجواب عليه هناك وأن معرفة الله حق معرفته لا يحصل منها إلا الأمن لا كما قال، فانظر لغرابة هذا القول كيف جعل محل الأمن خوفاً والعكس، وقد بينا هناك ارتفاع شيوخنا عما ألصق بهم فراجعه.
[ابن الوزير] قال: فإن قيل: قد ورد في السمع ما يدل على وجوب البيان، فالجواب من وجوه:
الوجه الأول: إن المراد بذلك بيان ما لم يبينه الله للعامة إلا بواسطة علماء الشريعة من أحكام الفروع وأركان الشريعة وأما العلوم العقلية التي ساوى الله بين الجميع فيها فلا يجب تعلمها؛ لأن ما لم يتعلق بالإسلام من ذلك لا يجب إجماعاً وما يتعلق بالإسلام منه فقد بينه الله تعالى وما بينه لم يجب إعادة البيان...إلى أن قال: غاية ما في الأمر أن هذا تخصيص للعمومات الموجبة لتعليم الجاهل فهو تخصيص صحيح؛ لأنه تخصيص بالعقل وتخصيص العموم جائز عند العلماء بالقياس الظني كيف بالدليل العقلي. ا ه.(1/166)
[المؤلف] أقول: قد سلم ورود السمع بوجوبه ومع ذلك فلا يخلو إما أن يكون الله قد بين لهم معرفته في كتابه أو لا، إن كان الأول وجب تعريفهم وإبلاغهم؛ لأنه مما ينتفع به الناس، ولكون النبي صلى الله عليه وآله بلغ الأمة ذلك وهذا بالأولى من تعريف مسائل الفروع لترتب صحتها أو قبولها على المعرفة، أو لم يكن الله تعالى قد بينه لزمك أن القرآن غير كامل وأن النبي صلى الله عليه وآله لم يستوف عليهم الحجة وذلك باطل.
ثانيا: إنه لو لم يجب علينا تعريف العقليات لوجب أن يعد النبي صلى الله عليه وآله متكلفاً حيث تلا على مشركي العرب الأدلة المثيرة لدفائن العقول على الوحدانية وعلى أهل الكتاب لكل من الفريقين مما يليق به ليتخلص عن الواجب.
إذا عرفت هذا علمنا أن العموم باقي لبقاء التعبد بذلك.
وقوله: وما يتعلق بالإسلام منه، فقد بينه الله تعالى وما بينه لم يجب إعادة البيان.
فنقول: إن البيان إما عقلي أو نقلي، إن كان الأول فعلينا التذكير لا البيان، أو الثاني وجب بيانه للميثاق الذي أخذه الله علينا لنبينه للناس، والعقل يستحسن وجوب إرشاد الضال وإنقاذ الغريق كما تقدم، ولا نسلم قبول العقل لهذا القياس الذي زعمت أنه مخصص على أنا لا نقول بزيادة غير ما بينه الله كما أنا نقول لا يجب إعادة الدعاء مع المكابرة ولا ندفع التخصيص بالعقل ولكن أنت وأهل نحلتك دفعتموه عند قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الزمر:62] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96] وعند آية الاستواء وآية المجيء وغير ذلك، فإن العقل يحيل استواء غير الجسم والعرض وتنقل غيرهما.(1/167)
وأما أنه قد أعلمنا بقيام الحجة فذلك مسلم لكن قد قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}[التوبة:6] أمر لنا في معرض الإخبار، والنبي صلى الله عليه وآله ابتدأ الدعاء بالعقليات وعقب الفروع الإسلامية حتى ضرب الإسلام بجرانه الأرض وملأ الأرض كلامه في جميع الأنحاء طولها والعرض ومن تشكك فيما قلنا تأمل لأول القرآن نزولاً والفرق بين المكي والمدني والتواريخ منادية بما قلنا فلتراجع.
[ابن الوزير] قال: الوجه الثاني: إنا نخصص تلك العمومات بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه عليه السلام لم يشتغل ببيان كيفية النظر وتعليم العقلي ذلك بل دعا الناس إلى الإسلام وقاتلهم عليه وبلغ ما أوحي إليه، والعلماء ليسوا أبلغ من الأنبياء، وقال الله تعالى في الأنبياء: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[يس:17] وكذلك العلماء فإنما هم ورثة الأنبياء، وأهل السنة قد قاموا بحق الوراثة للعلم النبوي، وقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يأمرنا بالمناظرة قبل قتال الكفار وإنما أمرنا بالدعا قبل القتال حتى اشتهرت الدعوة النبوية وقاتل عليه السلام قبل الدعوة. ا ه.
[المؤلف] قلت: أما فعله صلى الله عليه وآله فقد قدمنا ما فعل مع المشركين وما ناظرهم به حتى تحداهم ودعاهم إلى إقامة البرهان عليه إن كان وعرض المباهلة لأهل نجران بعد المناظرة بل لبث الزمان الطويل في مكة في مناظرة ومجادلة وتعقب ذلك مقامه بالمدينة كذلك مناظرا للناس بما يعرفون ولم يقاتل حتى دعاهم الفينة بعد الفينة، والدعا ينقسم إلى قسمين: كامل وغير كامل، فالكامل دعا الأنبياء كما حكى الله صفته قال عز من قائل: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} أي الكامل في البيان المعروف لدى المخاطب.
فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وآله ربما أرسل غيره مع المسلمين فيقاتل قبل الدعا.(1/168)
قلنا: ليس كما وهمتم بل كان يبعث صلى الله عليه وآله السرايا ويأمرهم بدعاء من وردوا عليه إلى كتاب الله، والكتاب مشحون بالأدلة العقلية على قدر ما يفهمون لنزوله بلغتهم.
وأما أنه قاتل قبل الدعوة فإنما ذلك إذا كان لمعرفتهم لما دعا وشهرة المدعو إليه والإعادة لا تجب بعد البيان البليغ.
فأما زعمك أن يكون أهل الحديث قاموا بما قام به النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وفهموا كما فهموا من معاني التنزيل ففرية ليس فيها مرية كيف أيقاس عقل النبي صلى الله عليه وآله بأجلاف الظاهرية وقد وزن فرجح بأمته أو بأصحابه فرسان البلاغة وأرباب الخطابة في مقابل من لا يعرف قبيل من دبير، ولا حقيقة من مجاز، ولا تجسيم من تعطيل، ولا تشبيه من تمثيل؟
فيا لله والعجب!! أتنسب رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه إلى الجهل الوخيم وترميهم ببلادتكم؟ إن ذلك لهو البلاء المبين! وهل أردت غير هذا؟ وهل حمت إلا في حماه؟!!
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : ومن المعلوم أن الكفار لو اعتذروا بالشبه وجاءوا بفيلسوف يجادل عنهم وطلبوا من النبي صلى الله عليه وآله ترك الجهاد حتى يتعلموا أدلة علم الكلام ويجيب النبي عن جميع شبه الفلاسفة القادحة في العلم حتى يؤمنوا على يقين ما عذرهم النبي صلى الله عليه وآله في الكفر يوماً واحداً وكيف يمهلهم ويترك جهادهم حتى يتعلموا ذلك؟ ا ه.(1/169)
[المؤلف] أقول: بل العلم اليقين أن النبي صلى الله عليه وآله كان يجيب عن كل شبهة ويقيم الحجة عليهم كما جرت عادة الله الحكيم بإرسال الرسل وتمكين المرسل إليهم والإنذار والإعذار لكلٍّ بما يليق به، أليس نبينا صلى الله عليه وآله لبث في مكة ثلاثة عشر سنة أو أقل قليلاً، وأمّن صفوان بن أمية مدة، وجعل الخيار له بعد انقضاء المدة بين الإسلام أو الرحيل، وكذلك اليهود كم تناظر هو وإياهم ولم يقتلهم إلا بعد الخندق، ونقطع يقيناً أنه صلى الله عليه وآله لا يعاجل أحداً حتى يستوفي إقامة البرهان عليه، إن شرعنا مقتبس من حكيم لا من عقل محدث جليف لا يدري بمجازات القرآن الكريم، أتقيس شريعتنا المطهرة ونبينا الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] بعقل جاهل ضعيف كفر الناس بقولهم: القرآن مخلوق لله، حتى كفر من لم يكفر من قال ذلك وزعم أن الله لا يقدر على خلق القرآن وأنه لا يغفر ذنب من قال: القرآن مخلوق، ولو قام بجميع الواجبات واجتنب جميع المقبحات ويغفر كل المعاصي مع القول بإثبات قديم ثانيا مع الله وهو القرآن حتى لو قتل رسول الله وجميع أصحابه وقال بقدم القرآن وإن لم يعمل بحرف منه غير الشهادتين فإنه يدخل الجنة أما بعد الأيام المعدودة التي تلقفوها عن اليهود أو شفاعة أو عفو؟! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، والله المستعان على ما تصفون!!
فأما قوله: إنه لا يحصل العلم بما تقدم إلا في مدة طويلة فغير مسلم؛ لأن الدليل على الوحدة وما تستحق من الصفات إيجاباً وسلباً قريبة الانتوال، أما صاحب الفطنة فقابليته لا تحتاج إلى جور مؤنة وأما البليد فهو أقرب لعدم معرفته لشبه الفلاسفة فلا يهمك هذه المخافة فإن الحق ظاهر الأعلام قريب المعاني سهيل المسلك إلى أفئدة ذوي الأفهام.(1/170)