[ابن الوزير] قال: فإن قالوا: إنه يحسن منا إقامة البراهين العقلية قبل أن نحكم عليهم بالعناد ونرجع إلى الإعراض عنهم وإلى الجهاد، وأما أنتم فإنه يقبح منكم ذلك قبل إقامة البراهين.
[المؤلف] قلنا لهم: إن الحجة لله تعالى عليهم قد تمت قبل أن تذكروا لهم تلك البراهين بما خلق الله لهم من العقول وأرسل إليهم من الرسل فكما أنهم لو ماتوا على كفرهم قبل مناظرتكم لهم حسن من الله أن يعذبهم بالنار فكذلك يحسن منا أن نقول لهم: قد أقام الله الحجة عليكم وعرفكم، ثم استدل أن النبي صلى الله عليه وآله قاتل المشركين حتى يشهدوا الشهادتين ولم يوجب الله عليه المجادلة. ا ه كلامه.
أقول: أما إذا استطعمونا الدليل وجب لفعله صلى الله عليه وآله مع أهل نجران وغيرهم ممن قبلهم وبعدهم بالضرورة.
وأما قوله: إنه قاتل قبل الدعاء في آخر الأمر، فغير مسلم؛ إذ قد عرض نفسه على قبائل العرب ودعاهم في المواسم كافة حتى فشى الإسلام وطار صيته وظهر ظهوراً لا يجهله أحد من العرب، وأرسل دعاته إلى اليمن قبل الكتاب فلما أعرض العرب أمره الله بالقتال بادئاً بقريش ومن ظاهرهم ثم الذين يلون المدينة، ثم كافة أهل الشرك بعد الفتح.
وقد جرت عادة الحكيم سبحانه وتعالى بعدم مؤاخذة الناس حتى يقيم عليهم الأدلة فإذا فسقوا أخذهم بتكذيبهم، هذا نبينا صلى الله عليه وآله أمره الله بالجدال فقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].
وأما التقسيم الآخر وهو هل هم معذورون قبل المناظرة أم لا؟
قلنا: أما قواعدنا فهي قاضية بعدم عذرهم لكن نحن متعبدون بكمال معرفة الله سبحانه على ما يجب له وإرشاد عباده بما فهمنا من العلوم حتى ورد الوعيد على كتم علم يحتاج إليه الناس ومن لم يعرف حجج الله على عباده كيف يعرف ثمرة الحجج.(1/161)
[ابن الوزير] قال: الوجه الثاني: إن الكفار متى سألونا الدليل على ثبوت الإسلام قلنا لهم: انظروا في ملكوت السماوات والأرض ومعجزات الأنبياء ونحو ذلك من أدلة الإسلام على الإنصاف...إلى آخر كلامه.
[المؤلف] أقول: جوابك هذا من أوله بمعزل عن كلام صاحب الرسالة ـ رحمه الله ـ ، لكن الجواب على هذه الوجوه بأجمعها من وجهين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى تعبدنا بالنظر لعدم الطريق إلى معرفته كما يجب له إلا من جهته ليس إلا، فثبت وجوبه كما قلتم أنكم تأمرون الكفرة به، أما الكفار فقد قدمنا وجوب دعاهم إلى الحق إذا استطعمونا ذلك بما أمكن ولا يلزمنا إدخاله في قلوبهم، بل نحن متعبدون بذلك سواء انتفعوا أم لا، كما وجب على الأنبياء صلوات الله عليهم؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، على أن جميع ما تردون به لا يستقيم إلا بالنظر، وجميع أدلة السمع لا يحكم على رجحان بعضها على بعض إلا العقل بواسطة النظر الذي قمتم وقعدتم في هدم وجوبه.
الوجه الثاني: إنك قررت فيما سبق لك أن كل أهل فن حجة في فنهم على من سواهم من سائر الفرق فمالك الآن رجعت على عقبيك وأنكرت وجوب النظر ثم استدليت به، ومع أن هذا يستلزم أن إيمان المحدثين أعظم من إيمان أئمتكم أبي بكر وعمر، فإنهما لم يؤمنا حتى تلا عليهما القرآن ودعاهما الرسول صلى الله عليه وآله فلما نظرا صدق قوله بعقولهما آمنا بواسطة النظر، وهلا عرفا ربهما من غير نظر كما عرفه أهل الحديث، ولم لا يسكت الرسول صلى الله عليه وآله من دعائهما ووكلهما إلى عقولهما، بل تكلف ذلك فأين قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص:86].(1/162)
وأما استدلاله على عدم المحاجة بقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ}[آل عمران:20] وأمثالها فهي من الأجوبة المسكتة التي يسميها البيانيون بالإقناعية كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف:81] بعد إقامة البرهان وتحقق العناد؛ لأن القرآن من حكيم واحد يجب حمله على الائتلاف ومقعده على شريعة الإنصاف والجمع بين آياته وأحكامه فلا تذهب به مذاهب الاختلاف وقد قال سبحانه: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}[المائدة:67] {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214] {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55] إلى غير ذلك مما يقتضي معناه.
[ابن الوزير] قال: فإن قلت: قد يكون في الناس من هو بليد لا يستطيع أن ينظر ولا يعرف الأدلة إلا بالتعليم فيجب تعليمه.
والجواب من وجوه:
الأول: لا سبيل على قواعدكم إلى العلم القاطع بوجود من هو كذلك، سلمنا فإن الله تعالى حين يعلم منه النظر وطلب الحق يلهمه ويمكنه لا محالة، سلمنا أن الله تعالى لم يمكنه من ذلك لبلادته، فمن أين أنه مكلف بالعلم؟ وما المانع أنه غير مكلف عند من لا يجيز التقليد. ا ه.(1/163)
[المؤلف] أقول: لا يخلو إما أن تكون تلك البلادة مانعة عن معرفة الدليل أصلا فالتكليف ساقط، أو يكون متمكناً معها من المعرفة وجب عليه التعلم؛ لأن العاقل إذا خاف من وبال أمر وجب عليه طلب النجاة من الوبال ولقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل:43] فلو ترك ذلك لكان إلى الخبط أقرب منه إلى الصواب كما قال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِير}[الحج:8] وهذا هو الوجه في تكليفه بالعلم؛ إذ ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً يجب كوجوبه والتعليم مقدور، وقد قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد:17] {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}[الكهف:14] وقال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10] وقد ورد: ((اطلبوا العلم ولو بالصين)) أخرجه المرشد بالله عليه السلام في أماليه، والسيوطي في الجامع الصغير وغيرهما.
[ابن الوزير] قال: الوجه الثاني: أن يقول: قد يكون في الناس من لا يفهم الأدلة المحققة بالتعليم أيضاً لشدة بلادته فما أجبتم به فهو جوابنا.
فإن قلتم: الأدلة تمنع وجود مثل هذا فإن وجد فغير مكلف.
قلنا: ونحن نقول بمثل هذا فيمن لا يتمكن من معرفة الإسلام بمجرد خلق العقل وبعثة الرسل. ا ه.
[المؤلف] أقول: تقدم الجواب، وهنا لطيفة وذلك رجوعه إلى العقل وبعثة الرسل بخلاف ما تقدم.
[ابن الوزير] قال: الوجه الثالث: إن الذي يعرفه أهل الجهل من المسلمين يكفي أهل البلادة من الكفار فإنه لا يطالب بالأدلة التي لا يعرفها إلا علماء الكلام إلا أهل الذكاء من الكفار وأهل الذكاء منهم قد تمت عليهم الحجة ومكنهم الله من المعرفة ولا يجب علينا تعريفهم بما هم متمكنون من معرفته من غير تعريفنا كما تقدم. ا ه.(1/164)
[المؤلف] أقول: أما الكفار فقد تقدم الجواب فإن كان مطلوبك التساوي بين العالم والجاهل فقد خالفت العقل وفضلت الجهل أو رجحته كما تقدم ورديت النقل، قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[الزمر:9] وأهل الإسلام البصير منهم وغيره قد ثبت الإيمان في قلوبهم وإن تناول العي بعضهم عن تحرير الدليل فهو ثابت قلبي عجز عن التعبير عنه وأنت خرجت عما تضمنه كلام صاحب الرسالة من التعلم لرد الشبه كما قيل:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه .... وجاوزه إلى ما تستطيع
فأما وجوب التعريف علينا فكذلك قد تقدم إلا أنه قد دب ودرج على كثرة الهذيان والترويج على قصارى العقول والبيان ليخلص أهل نحلته من بحار الجهل الوخيم، وينزه أقوالهم عن لوازم التشبيه والتجسيم حتى وهي الحجج النيرة على أهل الكفر فإن لم يكن خرج إلى النصرة فقد كاد، نسأل الله التوفيق إلى أوضح طريق.
[ابن الوزير] قال: الوجه الرابع: سلمنا أنه من عرف علم الكلام تمكن من محاجة الكفار وإفحامهم دون غيره ولكن ذلك لا يجب ولا يستحب، أما أنه لا يجب فلعدم ما يدل على وجوبه. ا ه.(1/165)