فدارت رحانا واستدارت رحاهم .... سراة إليها ما نولي المناكب
فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا .... فقلنا بلى إنا نرى أن نضارب
وذكر ابن عبد ربه في (العقد الفريد) أن عبد الله كان يقاتل في صفين بسيفين وروى له هذه الأبيات، وقد رويت لمحمد بن عمرو هذا ولو لم يقاتل فلم يختلف النقلة أنه حضر مع أبيه وسود بصفين ((ومن سود علينا فقد شرك في دمائنا)) مع توليه لمعاوية مصراً بعد أبيه وأحسب أني اطلعت على ما يقتضي ندمه على القتال واعتذاره إلى الحسين بن علي عليه السلام إلا أني قد سهوت عن موضعه.
[معاوية بن أبي سفيان]
فأما معاوية فأمره مكشوف لا يستر وظاهر لا يتستر، ومثالبه أكثر من أن تحصى، ومخازيه أعظم من أن تستقصى، ومن ذكره في حيز الصحابة فقد استخف بذلك المنصب الشريف واستهدف ذلك الشامخ المنيف.
فمنها ما روى أبو عبيدة عن الواقدي وهما ممن لا يتهم على معاوية أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن عليه السلام واجتماع الناس إليه خطب فقال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: ((إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال))، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب، فلعنوه، فلما كان من الغد كتب كتاباً، ثم جمعهم فقرأه عليهم، وفيه: هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمداً نبياً وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب فاصطفى له من أهله وزيراً كاتباً أميناً فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه، فقال له الحاضرون كلهم: صدقت يا أمير المؤمنين. ا ه.(1/151)
واعلم أن القرائن الدالة على خبث عقيدة معاوية وكفره كثيرة نقلها الإخباريون، منها أنه أخبر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)). فأجاب معاوية عليهم: إنما قتله من جاء به -يعمي على عمي القلوب معنى معجزة اطلعها على نبيه علام الغيوب- فهذا جواب عاقل مجتهد أو جاحد مستخف مرتد، كيف وهو من المؤلفة قلوبهم هو وأبوه بلا خلاف.
ومنها: طلبه أن يقتل بعثمان غير قاتله والله يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45] ويقول: {فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}[الإسراء:33] فرد حكم الله في ذلك هو ومن معه، وقد بذل له أمير المؤمنين حكم الله في ذلك، ومن رد آية قرآنية كفر.
ومنها: استلحاقه زيادا مع قول النبي صلى الله عليه وآله في الخبر المشهور: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))، وقد لامه على ذلك الأموية وغيرهم حتى قال قائلهم مخاطباً له:
أتغضب أن يقال أبوك عف .... وترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد أن قربك من زياد .... كقرب الفيل من ولد الأتان
ولما روى له أحد الصحابة النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة قال: أما أنا فلا أرى به بأساً، فأقسم الراوي أن لا يساكنه في بلد.
ومنها: قتله حجر بن عدي وأصحابه بعذراء غدراً وصبراً.
ومنها: ابتزازه الأمة أمرها من غير مشورة ولا سابقة، أما في الإسلام فلا يعرف ونكره في الدين لا يتعرف.(1/152)
ومنها: سمه الحسن السبط صلوات الله عليه، وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وحمله الناس على بيعة يزيد السكير، وقوله للأنصار لما استأثر عليهم فشكوا إليه ذلك فسألهم: ما الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله به؟ فقال: أمرهم أن يصبروا حتى يلقوه على الحوض، فقال لهم: فاصبروا حتى تلقوه. مستهزئاً بالآمر والمأمور، وبذله الأموال لمن روى فضائل المشائخ ليهدم بذلك ما لعلي عليه السلام ولمن روى القبائح فيه حتى أسرع إلى ذلك أبو هريرة وعمرو وعروة بن الزبير وسمرة بن جندب وغيرهم، أفينبغي أن يقال: مجتهد متأول، وأي تأويل في يده بعد هذا مع معرفته لقوله صلى الله عليه وآله، ولله القائل:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة .... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
وكلما قلنا شايع ذائع متواتر النقل في دواوين الإسلام يعرفه الخاص والعام، ومن روى عنه من الصحابة فإنما روى عنه ما لم يخالف الناس فيه مع أنهم قد رووا كلام المشركين وأشعارهم وليست الرواية تعديل عند غير المعتبر، وكان الأولى والأحرى ترك الذب عن معاوية وغيره من أهل البهتان لو كان ثم عقول عارفة وأسماع لطرق الحق واعية، ولله در السيد محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال من قصيدة طويلة:
وهل لابن هند غير كل قبيحة .... فمن ذا الذي فيه يشك ويمتري
أليس الذي أجرى الدماء جراءة .... بصفين من أصحاب خير مطهرِ
وقاد طغاة الشام من كل وجهة .... يقاتل يقيناً كل بر وخيرِ
وأورد عماراً حياضا من الردى .... ببيع حدانا فدى كل ممطري
وسب أمير المؤمنين مجاهراً .... وألزم أن يملى على كل منبر
فقد عاد لعن اللاعنين جميعه .... عليه كذا من سن سنة منكر
وكم من جنايات جناها تجاريا .... وأبرزها جهراً ولم يتسترِ
أيجهد من يدعي ابن هند محققا .... ومن قال هذا فهو والله مجتري
وما هو إلا ماكر متحيل .... على الملك حتى ناله بتجبرِ(1/153)
[عمرو بن العاص]
وأما عمرو بن العاص السهمي فمثالبه ظاهرة الأعلام، ومخازيه مشهورة في الجاهلية والإسلام، وهو الأبتر الذي هجا رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك لعنه بكل بيت لعنة، وأما في الإسلام فابتدأ بهجو الأنصار، وتكلم بما تكلم به ليغري بذلك بين المهاجرين من قريش والأنصار، فغضب أمير المؤمنين وبنو هاشم للأنصار، فخرج عمرو عن المدينة ولم يرجع حتى رضوا عنه وشعره في ذلك وجواب الفضل بن العباس وحسان بن ثابت مذكور في البسائط فراجعه، واستعمله عمر بن الخطاب فخانه، فأخذ عمر نصف ماله لبيت المال، والقصة مشهورة، ولما عزله عثمان عن مصر حرض عليه حتى قتل، فلما بلغه قتله استبشر وافتخر حتى قال: أنا أبو عبد الله إذا أنكيت قرحة أدميتها، ثم شارك معاوية في حروبه كلها، وأعطى عهد الله أن يحكم بالحق فغدر أبا موسى وحكم بغير الحق جرأة ومحاباة، أفما لك عقل يا مدعي اجتهاده إنما يكون الاجتهاد فيما خفيت أرجحية قرائنه، فأي حجة في يده إلا قوله من على منبر دومة الجندل: إن معاوية أولى بعثمان، فإن كان ذلك نافعاً فمروان بن الحكم أولى بعثمان وإلا فلم لا يجعل قرابة النبي صلى الله عليه وآله كقرابة عثمان، ثم أتى بطامة كبرى وجرح لا يبرى وذلك اختلاقه الخبر المخرج في الصحيح للبخاري أن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء .. إلى آخر فريته هو ومن أخرجه ورواه، فيا عجباً عن تصديق هذا الأبتر اللعين، ألم يعارض خبره الكتاب والسنة، قال سبحانه في الذكر الحكيم: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}[الأنفال:75] وقال النبي صلى الله عليه وآله [في علي] عليه السلام : ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).(1/154)
وأخرج الترمذي مرفوعاً قال: قال صلى الله عليه وآله لعلي: ((أنت أخي في الدنيا والآخرة))، وقال في الحسنين إنهما ابناه، وقال: ((أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم))، وقال لعقيل إنه يحبه حبين حب القرابة ولحب أبي طالب له، وأما جعفر الطيار فإن أراده بخبرهم هذا فليعقلوا.
ومن العجائب أن المحدثين إذا سمعوا رواية تقتضي الطعن في آحاد الصحابة ردوها وجرحوا رواتها وقالوا: يروي ما يقتضي الطعن على الصحابة، فلما سمعوا بما يقتضي الطعن في بني هاشم أجمع أهل الكساء وغيرهم كجعفر الطيار وعقيل بن أبي طالب، بل لم يتحاشوا من سيد المرسلين صلى الله عليه وآله فإنهم رووا أنه عبس في وجه ابن أم مكتوم والقصة مشهورة عندهم، وبعضهم قال: كان ضالاً قبل البعثة كافراً وعلي بن أبي طالب عليه السلام روي عنه خطبته ابنة أبي جهل وغير ذلك من مختلقاتهم رفعوا رؤوسهم إلى ذلك وعدوه من أقوى المسالك، {هُمُ الْعَدُوُّ}، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} ولله أمير المؤمنين حيث قال: ما سُتر ظهر في صفحات الوجه أو فلتات اللسان، وأعظم من ذلك وأصله قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}[محمد:30] وما نقم القوم من آل أبي طالب إلا أنهم كفلوا الرسول صلى الله عليه وآله في صغره، وحاموا عنه بمكة، وقاتلوا دونه بالمدينة، وذبوا عن دينه بالعراق، فمنهم المقتول غدراً، والمحبوس والمطرود، والمصلوب والمحروق، وقد تشرف الصحيح بإخراج حديث الأبتر في أبي طالب واختلاقه ما الله يعلم براءة نبيه صلى الله عليه وآله من ذلك.
ولا لك أم من قريش ولا أب .... أعباد ما للؤم عنك محول
وشعر عمرو في بيعه دينه من معاوية بخراج مصر معروف، وأكبر الطوام روايته لخبر: ((تقتل عمار الفئة الباغية)) وقتاله بعد ذلك، وعدم توبته.(1/155)