[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الخامس: إن القول بالإرجاء وإن كان حراماً فليس بكفر ولا فسق وكل بدعة محرمة [تقول] فيها صاحبها ولم يكن كفراً ولا فسقاً فصاحبها مقبول بالإجماع، أما أن الإرجاء ليس بكفر ولا فسق فذلك مقتضى الدليل ومذهب أصحاب الخصم، أما الدليل فلأن التكفير والتفسيق يحتاج إلى دليل سمعي وهو مفقود ومخالفتهم في النصوص تأويلاً لا يكفي في الكفر على أن ابن الحاجب اختار عدم التأثيم لمن خالف القطعي مجتهداً وهو قوي...الخ.
[المؤلف] أقول: قال الشرفي ـ رحمه الله ـ في شرح الأساس: وأما المرجئة فمن قطع بخلف الوعيد في حق مرتكب الكبيرة أو انقطاعه فلا شك في كفره برده آيات القرآن الصحيحة في بطلان قوله. انتهى.
قال في (القلائد): والمسلمون العاصون داخلون في الوعيد لعمومه، (الأصم): لا لعلمنا أنها ليست على عمومها بدليل خروج التائب ونحوه، فهي مجملة مع التخصيص، (مقاتل): لا وعيد لمسلم. ا ه.
وقال في موضع آخر: المعتزلة: ويصح الإكفار مع التأويل إذ أكثر الكفار متأول. (أبو حنيفة): لا أكفر أحداً من أهل القبلة.
قلنا: إذ استحل الخمر أو سبّه صلى الله عليه وآله كفر إجماعاً وكذا فيما علم ضرورة أنه مثلهم.
[ابن الوزير] وقال: ومن قال: لا وعيد لأهل الصلاة أو جوز الخلف على الله كفر.
قلت: فهذا كلام أصحابنا لا أرى لأحد منهم خلاف ذلك إلا رواية عن المؤيد بالله وقد نفاها عنه فيما أحسب الأمير الكبير شرف الدين الحسين بن بدر الدين عليه السلام .(1/146)
فأما الدليل فنقول: من رد آية من القرآن لفظاً أو معنى نص في المقصود فقد كفر، والمرجئة ردوا حكم آيات محكمات صريحات لا تحتمل التأويل وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ...} إلى قوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ}[الأنفال:16] وقوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}[النساء:123] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ}[النور:11] والخطاب للمهاجرين والأنصار، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ...} إلى قوله: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ...}[الفتح:10] الآية، وقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ...} إلى قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح:16] والأعراب في تلك الحالة من المسلمين، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ...} إلى قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2] وقال: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ، إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}[الإسراء:74،75] وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225] وقوله تعالى مخاطباً للمسلمين في آيات الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...} إلى(1/147)
قوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا}[النساء:29،30] وقوله في آخر آية الصيد: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:94] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} إلى قوله: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[التوبة:38،39] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ...} إلى قوله: {..وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[الرعد:25] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}[الفرقان:19] وقوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}[الأحزاب:30] وقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزمر:13] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ...} إلى قوله: { ... بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات:11] .. إلى غير ذلك من آيات الوعيد فضلاً عن الأخبار التي لا تحصى في جميع دواوين الإسلام.
هذا وقد ورد من غير ما سبق التصريح بأن الظالم والفاجر من أهل النار، ولولا ضيق المقام وخوفاً من الإسهاب وشفقاً من ملل المطلع لاتسع النطاق، وظهرت أعلام الحق ظهور الإشراق، فإن المسألة حريَّة بذلك فراجع البسائط.
فإن قلت: هذه الآيات مخرج منها التائب، والباقي منها، إما مجمل كما قال الأصم أو مجاز كما قال غيره ودلالة أيهما ظني ولا تكفير ولا تفسيق إلا بدليل قاطع.
قلت: أما الإجمال فغير مسلم يعرف ذلك من استقراء لغة العرب، وأما كونه مجازاً فالجواب من وجهين:
الأول: العمومات العلمية قطعية وإن خصصت كما تقدم عن شيخنا رضوان الله عليه.(1/148)
الثاني: نزول الخارج والمخرج معا دليل إرادة الخصوص وإن خوطبوا بلفظ العموم فقد يطلق لفظ الجمع على المفرد لغرض كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}[آل عمران:173] والقائل نعيم بن مسعود الأشجعي لا غير: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}[آل عمران:173] وهو أبو سفيان وغير ذلك، وبذلك يتضح وجوب القطع في الباقي مع أن المتأمل يعلم أن الأحاديث التي احتج بها السيد محمد من رواية الداعي إلى بدعته وهي لا تتمشى على قاعدة المحدثين وغيرهم بل لا يبعد أن رواية الداعية لا تقبل بالإجماع.
فإن قيل: إن الشيخين قد رويا عن الداعية في صحيحيهما.
قلنا: لا يعارض ذلك النص الصريح منهما ومن غيرهما لاحتمال أنهما لم يطلعا على كونه داعية أو رويا عنه ما لم يجر إلى بدعته وذلك جائز كما هو مصرح به على أنه قد ذكر الطيب محمد توفيق في (سنن الكائنات) ما لفظه: فكم في الصحيحين من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها...إلى قوله: وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ بهما الأئمة في مذاهبهم...الخ.
الطائفة الثالثة:
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ:
معاوية والمغيرة وعمرو بن العاص ومن تقدم ذكره في الأوهام، فإن كثيراً من الشيعة ذكروا أنها ظهرت على هؤلاء الثلاثة قرائن تدل على عدم التأويل، وقدحوا بتصحيح حديثهم في حديث الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم، وأما أهل الحديث فمذهبهم أنهم من أهل التأويل والاجتهاد والصدق لكونهم أظهروا التأويل فيما يحتمله وعلم البواطن محجوب...إلى قوله: والقصد مجرد تصحيح الحديث الصحيح والذب عنه لا غيره...إلى قوله: فأما أبو موسى وعبد الله بن عمرو بن العاص ونحوهما ممن لم يصح عنه لعلي -رضي الله عنه- حرب ولا سب...الخ.(1/149)
ثم سرد أحاديث معاوية في الأحكام وما لها من الشواهد من حديث غيره بعضها عن الثقات من الصحابة وبعضها عن المتنازع في ثقتهم إلى أن قال بتزكيته ولو لم يدل على ذلك إلا أن معاوية لم يرو شيئاً قط في ذم علي -رضي الله عنه- ولا في استحلال حربه ولا في فضائل عثمان ولا في ذم القائمين عليه، ولهذا روى عن معاوية غير واحد من أعيان الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير...الخ.
[المؤلف] أقول: أما إنكاره أن يكون ابن عمرو قاتل علياً عليه السلام فغير سديد، هذا ابن ديزيل يقول: وروى إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم بن حاطب الجمحي عن عمر بن أبي سعيد عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم ومواثيقهم وكانوا هكذا؟ -فخالف بين أصابعه- فقلت: تأمرني بأمرك يا رسول الله، قال: تأخذ مما تعرف وتدع ما تنكر وتعمل بخاصة نفسك وتدع الناس وهوان أمرهم))، قال: فلما كان يوم صفين قال له أبوه عمرو بن العاص: يا عبد الله اخرج فقاتل، فقال: يا أبتاه أتأمرني فأقاتل وقد سمعت ما سمعت يوم عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله ما عهد؟ فقال: أنشدك الله يا عبد الله ألم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وآله أن أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال: ((أطع أباك)) فقال: اللهم بلى، قال: فإني أعزم عليك أن تخرج فتقاتل، فخرج عبد الله بن عمرو فقاتل يومئذ متقلداً سيفين، وقال: إن من شعر عبد الله بعد ذلك يذكر علياً بصفين:
فلو شهدت حمل مقامي ومشهدي .... بصفين يوم شاب منه الذوائب
عشية جاء أهل العراق كأنهم .... سحاب ربيع رفعته الجنايب
إذا قلت قد ولت سراعاً بدت لنا .... كتائب منهم وارجَحَنَّتْ كتائب
وجئناهم نردي كأن صفوفنا .... من البحر مد موجه متراكب(1/150)