نعم فالقول الفصل الأخذ في هذه المسألة بما دل عليه القرآن المعجزة العظمى إلى آخر الزمان المحفوظ من الزيادة والنقصان...إلخ، ثم أورد أدلة الفريقين جميعها فراجعه فإنه بحث كامل نفيس.
قلت: وهنا قاعدة يعرف منها كذب هذه الأخبار التي تمسك بها المرجئة وذلك أنها مخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه فإنهم تبرأوا من الغال وإن كان شيئاً يسيراً وصرحوا بدخوله النار، ونسبوا مانع الزكاة إلى الردة واستحلوا دمه وماله في أيام أبي بكر وصرحوا بكفر تارك الصلاة، وكذلك النبي صلى الله عليه وآله لم يقبل إسلام من استأذنه في تركها أو في شرب الخمر إلى غير ذلك من أحوالهم، هذا عمر استأذن النبي صلى الله عليه وآله في قتل حاطب لما كتب إلى قريش، وقصة ثعلبة لا يخفى على أحد وإنما أصل هذا المذهب من الجوابات الإقناعية وذلك أنه لما عوتب معاوية وعدد عليه ما ارتكب في الإسلام لم يلق مساغاً للإنكار فأجاب بقوله: وثقت بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر:53] وعمرو بن العاص لما حضرته الوفاة فجعل يتندم على أحداثه فجعل ولده عبد الله يذكر له مواقفه مع النبي صلى الله عليه وآله فقال له عمرو ما معناه: نسيت لا إله إلا الله، فهما أول من فتح الإرجاء، وتبعهم الملوك على ذلك فتقرب إليهم علماء السوء واختلقوا كثيراً من الأخبار مع ما طرق الإسلام من مكائد الزنادقة الأشرار وغيرهم من الباطنية والمنافقين والكفار ليلبسوا علينا قواعد الإسلام فتداولها الناس حتى صارت في أيدي الديانين فشهروها تديناً وعملوا بسلامة صدورهم وحفظوها لحرصهم على السنن ففشا من هذه الأقوال الردية والاختلاف بين هذه الأمة المحمدية.(1/141)
[الإمام] قال ـ رحمه الله ـ:
الطائفة الثاني المرجئة:
وهذا لفظه فيهم: قال ـ رحمه الله ـ : ولأن المرجئة والمجبرة لا يرتدعون عن الكذب وغيره من المعاصي، أما المرجئة فعندهم أنهم مؤمنون وأن الله لا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان وإن زنى وإن سرق وإن قتل، والكذب أخف من ذلك. ا ه.
[ابن الوزير] إلى أن قال السيد محمد بعد اعترافه بصدق ما نسب إليهم وتحرير الجواب على ما ذكره يتم بذكر وجوه:
الوجه الأول: أن قوله: المرجئة لا يرتدعون عن الكذب وغيره من المعاصي مباهتة عظيمة وإنكار للضرورة، فإن كلامنا إنما هو فيمن عرف منهم بالديانة والأمانة وأدى الواجبات وترك المحرمات، والمعلوم بالضرورة أن من المرجئة من هو من أهل العبادة والزهادة والعلم والإفادة...الخ.
[المؤلف] أقول: إن صاحب الرسالة لم يسلبهم فعل الطاعات فيتوجه عليه هذا الجواب، وإنما ذكر أنه لا رادع لهم عن الكذب لقطعهم بعدم دخولهم النار فلا نأمن أن يفتعلوا ما أرادوا مما يقوي بدعتهم كما قد نقل، وأقصى ما هنا أن رواية الخايف أرجح من رواية الآمن يعرف ذلك كل منصف وينكر شمسه المتعسف، وجميع الهذيان من هذا الوجه الذي زعم أن الله منّ عليه بعلمه لا يشم رائحة ما تكلم به صاحب الرسالة ـ رحمه الله ـ ولا يحوم حول المحرر من أقواله، شكونا عليك الأفعال القلبية فأجبتنا بأفعال الجوارح كأن ابن أُبِّي لم يفعل من ذلك شيئاً، بل أين أنت من عبادة الخوارج وقرآنهم الذي لا يجاوز تراقيهم (أُرِيه السُّها ويريني القمر).(1/142)
[ابن الوزير] قال: الوجه الثاني: اعلم أن الحاصل على المحافظة على الخيرات والمجانبة للمكروهات ليس مجرد اعتقاد أن الله تعالى يعاقب على الذنب وإنما هو شرف في النفوس وحياء في القلوب من مبارزة المنعم بجميع النعم بالمعاصي، ولهذا فإن أكثر الخلق محافظة على الخير، ومجانبة للمكروه، أشدهم حياء من الله وإجلالا له، وأما مجرد الاعتقاد فهو واحد لا يزيد ولا ينقص ولهذا نجد الوعيدية مختلفين مع اتحاد معتقدهم...إلخ.
[المؤلف] أقول: لا يخلو إما أن يكون العمل مجرداً عن طلب شكر المنعم أو طلب النجاة أو لا، الأول باطل لمصيره لا لغرض فتعين الثاني إما لوجهي الشكر والخوف أو لأحدهما كما قال صلى الله عليه وآله لما عوتب على إجهاد نفسه في العبادة بعد تبشيره بغفران ذنبه: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) والمعاتب له من أصحابه لم يظهر له هذا الشرف الذي ذكرتم ولاحام جواب النبي صلى الله عليه وآله [حول] حمى ما حررتم بل قال سبحانه في وصف الممدوح: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28]، وقال: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}[النور:37] وغير ذلك كثير، بل كانت الصحابة إذا غضبت قال المقسم: أما والله لولا خوف الله. وغير منكر وجود الحياء من كفائف الناس الخُوَّفْ.(1/143)
وأما اختلاف الوعيدية فلتفاوت الاعتقاد في القلوب كما قال أهل نحلتك: إنما الإيمان يزيد وينقص، وقد اختلفت عبادة الملائكة" والأنبياء كذلك صلوات الله عليهم، ألا ترى إلى قوله: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً...)) الخبر، ومعناه عن النبي صلى الله عليه وآله أو عن وصيه عليه السلام فأعرف الناس بالله أشدهم خوفاً منه كما روي عنه صلى الله عليه وآله في بعضهم: ((لو لم يخف الله لم يعصه)) بتصدير حرف الامتناع لوجود، وهذه المرتبة التي ذكرتم أحد المراتب التي ذكرها الرازي عن المتصوفة غلو لم يدل عليها دليل من الكتاب ولا نطقت بها السنة ولا جرت على ألسن ذوي الألباب.
وأما الأشعار العشقية التي استشهدتم بها فمن غلو العشاق ومقامات المبالغة لا تخفى عن أهل البيان كما قال سبحانه: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً...} الآية[التوبة:80]، بيان ذلك أن فعل المساق لا لغرض من العبث.
فإن قلت: بل مجرد المحبة من العارفين.
قلنا: لا تخلو تلك المحبة إما أن تكون ثمرة النعم العديدة عادة ونتيجتها من قسيم الشكر أو الخوف من هجر المحبوب وعتبه كان ذلك هو المطلوب، فليت شعري ما ألجأك إلى ترك مناهج الظاهرية والتمسك هنا بمسالك المتصوفين بعد أن عنفتمونا ورميتمونا بانتحال أقوال الفلاسفة والمبتدعين، هلم كلام الصحابة على هذه المرتبة والتابعين أو برهان لذي المحاجة مبين.(1/144)
فأما قوله في جواب الفنقلة أن المرجئ لا يقطع أنه يموت مسلماً مثلما أن المعتزلي لا يقطع بأنه يموت تائباً، فجوابه أنه وإن لم يقطع بذلك أجلا مع معرفته بأنه مؤمن على قواعدهم في تلك الحالة لا شك أنه يقطع باستحقاقه الجنة، ولو كان على بطن الأجنبية لتلبسه بالإيمان على زعمه في تلك الحال وطروء الشك الآجل لا يغير حكم اليقين الحاصل عنده مع أن ذلك من الأفعال القلبية ونحن مخاطبون بالظاهر لنا من أحوالهم، وكما أنه قد يصدق الكذوب فلا يلزمنا تصديقه مع تجربته على الكذب فكذلك المرجئ لا يلزمنا اعتقاد خوفه من الخاتمة مع قطعه في الحال أنه من أهل الجنة فيرتدع عن الكذب في الرواية.
وأما نقله عن المعتزلة من وجوب الأصلح على الله فليس ذلك بمعنى الوجوب من جهة الاستعلاء وإنما هو باعتبار قود الحكمة الربانية، قال سبحانه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}[ق:29]، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران:9].
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الرابع: إن من اعتقد أن الله يتفضل على أهل الإسلام بمغفرة جميع الذنوب من غير توبة لم يلزم من ذلك أن يتعمد الكذب على الله ويجاهر بجميع المعاصي.. إلى آخر كلامه من هذا القبيل.
[المؤلف] أقول: لم يقصد صاحب الرسالة ـ رحمه الله ـ أن تعمد الكذب يلزم من هذا ولكن عدم الخوف عن تعمد الكذب يلزم منه عدم الثقة بروايته؛ إذ لا نأمن أن يتعمدوه فيما يجر إلى بدعتهم كما قد وقع من كثير من الوضاعين، ثم من أين لنا أنهم من أهل شرف النفوس والمحبة الزاجرة عن غضب المحبوب وهجره؟ سلمنا فإذا عنده أن ذلك غير معصية لكونه كذب له لا عليه ولمقام الإيمان فما بقي لنا من متمسك من قبول أخبارهم فيما انفردوا به.(1/145)