هذا ولا يخفاك أن السيد محمد أكثر المغالطة ورد ما هو قريب من الضرورة من مذاهبهم كما تحكيه أقوالهم ومصنفاتهم نقلنا ذلك منها اللفظة باللفظة لكن الهوى أعمى بصر اللبيب.
شعرا:
ما بال عقلك واله في غمرة .... من لوعة قرت عيون الحسد
هذا الهوى أعمى اللبيب وقد رأى .... بهتان ما قد صدروه عن يد
فغدا على آل النبي متنقصاً .... يرميهمُ بسهام خب معتد
وأتى يناضل عن طغاة قد رموا .... رب العباد بذنب زان مفسد
لولا الحياء لما غمضت على القذى .... ولقلب بهتان أتوه بمشهد
الله أعلم ما الجواب لدى اللقا .... يوم القيامة ما اعتذارك في غد
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : قال -يعني صاحب الرسالة: فإن قالوا: هذا من جهة العقل لكن قد ورد السمع بأنه يدخل المطيع الجنة والعاصي النار.
قلنا: إنما وعد ذلك مقروناً بمشيئته لقوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وهم لا يعلمون من يشاء الله أن يغفر لهم.
والجواب عليه: أنه جحد للضرورة فإنهم يعلمون أن الذي يشاء الله أن يغفر لهم هم من أهل الإسلام دون المشركين وأن أهل الكبائر من أهل الإسلام قد توعدهم الله بالعقاب وأن وعيد الله لهم صادق لكنه عموم يجوز تخصيصه بالمغفرة لبعضهم من غير تعيين وبهذا يبقى الخوف والرجاء مع كل مؤمن وهذا مذهبهم معلوم بالضرورة...الخ.(1/136)
[المؤلف] قلت: قال أبو عثمان الصابوني: ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة لا يدري أحد بما يختم له ولا يحكم لواحد بعينه أنه من أهل الجنة ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار؛ لأن ذلك يغيب عنهم لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان ولذلك يقولون: إنا مؤمنون إن شاء الله، ويشهدون لمن مات على الإسلام أن عاقبته الجنة، فإن الذين سبق القضاء عليهم من الله أنهم يعذبون بالنار مدة لذنوبهم التي اكتسبوها ولم يتوبوا عنها فإنهم يردون أخيراً إلى الجنة ولا يبقى أحد في النار من المسلمين فضلاً من الله ومنّة...الخ.
أقول: هذا حاصل كلامهم ولم يذهبوا مذهب الإمام محمد بن إبراهيم من خصوص وعموم.
والجواب عليه: أما قوله: إنهم قد عرفوا أن المغفور لهم من المسلمين دون المشركين فذلك تعنت محض؛ لأن صاحب الرسالة ما قصد المشركين ولا شملتهم عبارته، والحق أن أهل السنة قد قطعوا بدخول كل مسلم الجنة وذلك مع المغفرة ومبنى المسألة على دليلين عقلي ونقلي:
الأول يقال: إنه لا يحسن من الله العفو والفضل إذا كان ذلك يؤدي إلى الإغراء لقبحه والله يتعالى عن القبيح والإغراء به.
ثانياً: أنا نجد العقلاء يذمون ملكاً أغرى رعيته حتى استخفوا بأوامره ونواهيه وجاء الشرع بتصديقه، كما عاتب الله النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه على أخذ الفدى من أسارى بدر حتى يثخنوا في الأرض وذلك لتعظم الهيبة من المسلمين وتكسر نفوس أهل الشرك لكثرة القتل وأن المسلمين لا هوادة عندهم ولا رحمة على المشركين ولذا مدحهم الله فقال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}[الفتح:29].(1/137)
وأما من النقل فلا يخلو المخصص إما أن يكون من القرآن أو من السنة، أما من القرآن فلا إلا ما هو مجمل والمجمل لا يخصص به العموم، وأما السنة فلا يخلو إما أن يكون من طريق داعية إلى البدعة فهذا مردود عند أئمة التحقيق من أهل الحديث وغيرهم وإن كان من طريق غير الداعية فلا يخلو إما أن يقال: تُخصص الآحاد آيات القرآن الكلامية أو لا، إن كان الأول فلا يخلو إما أن يكون العام المخرج منه مجازاً أو حقيقة ليس الثاني فلا يخلو إما أن تكون دلالته على ما بقي قاطعاً عاد النزاع هل يخصص بالظني أم لا، أو الدلالة صارت ظنية جاز تخصيص الظني بمثله اتفاقاً على أنه قد ورد أخبار صحيحة بتعذيب أقوام على معاص معينة لا يمكن تخصيصها، فذهب الإمام المهدي أحمد بن يحيى إلى الرجاء والتخصيص فيما أحسب وذلك في بعض مصنفاته، وذهب الإمام إبراهيم بن محمد المؤيدي ووالدنا الإمام الهادي الحسن بن يحيى عليه السلام إلى أن الباقي بعد إخراج التائب وإن كان مجازاً قطعياً، وهذا المقام مما ينبغي فيه التحري لهذا توقفنا عن ترجيح أحد الطرفين حتى يفتح الله لنا بمرجح لأحدهما على الآخر.
قال شيخنا أمير المؤمنين الحسن بن يحيى ـ رحمه الله ـ وتجاوز عن سيئاته ورفع في عليين درجته- في جواب سؤال ورد عليه من الجهة التهامية ما لفظه: وأما حسن العفو عن فاعل الكبيرة عقلا فيدل عليه قول خليل الرحمن: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم:36]، وقول عيسى عليه السلام : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، وأما عدم حسنه عقلاً فلما فيه من الإغراء والإغراء قبيح عقلاً.(1/138)
وروي أن رجلاً تلا قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}[البقرة:209]، فجعل موضع: { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:209] {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:34] فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال: إن كان هذا كلام حكيم فلا يقول كذا الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه. ا ه.
فيمكن الجمع بأن العقل يحسنه في صورة لا يكون فيها إغراء. والله أعلم.
وأما العمومات فاعلم أن في الموضوعات اللغوية الوارد بها الكتاب والسنة ألفاظ موضوعة للعموم حقيقة وذلك كأسماء الشرط والاستفهام والموصولات و (كل) ونحوها.
والدليل على ذلك التبادر عند الإطلاق، فإنه إذا قيل: لا تقرب أحداً ولا تشتم رجلاً فهم العموم من ذات الصيغة قطعاً، والتبادر دليل الحقيقة، وما كان كذلك فدلالته قطعية؛ لأجل التبادر سواء كان ذلك في العلمي أو في العملي ولا يخرج عن دلالته المذكورة لغير مغير إلا أنه لما وجد المغير في العملي وهو كثرة التخصيص في أكثر عموماته ضعفت تلك الدلالة وصارت ظنية وبقي العلمي على الأصل؛ إذ لم يحصل فيه ما يقتضي الخروج عن الأصل فلا بد أن يكون دلالة مخصصة قطعية مثله؛ إذ القلة لا تقدح في الأصل مع أن العام العملي إذا اشتد البحث عن مخصصه وحصل العلم بعدمه كانت دلالته قطعية على الأصل يزيد ذلك وضوحاً أنا نقطع أن العلماء لم يزالوا يستدلون بهذه الصيغ على وجه العموم نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}[المائدة:38]، و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}[النور:2]، {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}[النساء:11] ونحو ذلك بلا نكير.
قال السعد فيما أورد على ذلك من التشكيكات: إنه عناد؛ لأنا نقطع أن العموم في مثل: لا تضرب أحداً، إنما يفهم من الصيغة. ا ه.(1/139)
وقال بعضهم: إنا لما استقرينا اللغة العربية وتتبعناها وبحثنا في مفهوم تلك الألفاظ واختبرناها وجدناها مفيدة للعموم وعلمنا ذلك علماً قطعياً. ا ه.
هذا والكتاب والسنة عربيان.
وأما أحاديث الإرجاء فاعلم أنه كذب على نبينا محمد صلى الله عليه وآله قطعاً لقوله صلى الله عليه وآله: ((ألا وإنه سيكذب عليّ...)) الخبر، فإن كان هذا الخبر صدقاً في نفس الأمر دل على أنه سيكذب عليه، وإن كان كذباً فقد كذب عليه قطعاً.
إذا عرفت هذا فالعلماء من غير نظر إلى قدماء الأئمة وأشباههم يقبلون حديث الترغيب والترهيب من دون مناقشة في رواتها ويتساهلون.
نعم وأما ما كان يرجع إلى العقائد فلا يقبل رواية من جر إلى مذهبه حتى يكون له شاهد من غيره، وقد ادعى السيد محمد بن إبراهيم الوزير أن أخبار الإرجاء بلغت فوق أربعمائة وثلاثين حديثاً.
نعم وجلتها من رواية أهل مذهبه من أهل الحديث مما يجر إلى قولهم أو من غيرهم من أخبار الترغيب كخبر: ((من قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة مائة مرة قل هو الله أحد...)) الخبر، رواه محمد بن منصور في الأمالي.
ومن الأخبار المحتملة التي ليست نصاً في المقصود مع أنها معارضة بأخبار تبلغ حد التواتر المعنوي من دواوين الإسلام مع الأدلة القرآنية العاضدة لها فإن قلنا بصحة أخبار الوعيدية وأهل الإرجاء على كثرة ذلك من الجانبين تناقضت، وإن قلنا بكذبها جميعاً لزم أن الأمة قد اتفقت على ضلاله وذلك اعتمادهم على الأخبار المكذوبة مع أن المسألة خطرها عظيم، ولما يلزم من أخبار الإرجاء الإغراء على فعل الزنا واللواط وشرب الخمر والاعتكاف على اللهو وغير هذه من الكبائر وترك الواجبات كالصلاة والصوم وغير ذلك جملة ترك أوامر الله وفعل مناهيه فيندم في المعاد حيث لا ينفع الندم، إن كان القول قول الوعيدية.
إن كان قولكم فليس بضائري .... أو كان قولي فالوبال عليكم(1/140)