[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الفائدة الرابعة في ذكر ثلاث طوائف خصهم بالذكر وأورد في الاحتجاج على جرحهم في الرواية ما لم يورد في غيرهم:
الطائفة الأولى المجبرة:
لكنه أراد من ليس بجبري من الأشعرية وأهل الحديث، وهذا لفظه:
قال ـ رحمه الله ـ : أما المجبرة فعندهم أن الله تعالى يجوز أن يعاقب المطيع وأن يثيب العاصي فلا فائدة في الطاعة، وأيضاً فعندهم أن أفعالهم من الله فالإثابة عليها والعقاب لا معنى له.
فإن قالوا: هذا من جهة العقل لكن قد ورد السمع أنه يدخل المطيع الجنة والعاصي النار.
قلنا: إنه إنما وعد ذلك مقروناً بمشيئته لقوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}[آل عمران:129] وهم لا يعلمون من الذي شاء الله أن يغفر لهم. ا ه‍.
[ابن الوزير] اعترضه السيد محمد فقال: الجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: إنا قد بينا غير مرة أن الأشعرية وأهل الحديث لا يقولون بالجبر وبينا نصوص أئمتهم على ثبوت الاختيار ونفي الإجبار كالجويني، والخطابي، والنووي، وابن الحاجب وغير واحد ممن قدمنا ذكره وهم أعرف بمذاهبهم من غيرهم، والرجوع إليهم في تفسير مقاصدهم في عباراتهم أولى من الرجوع إلى غيرهم، وإذا جاز أن ينسب إليهم ما هم مفصحون بالبراءة منه جاز أن ينسب إلى الشيعة والمعتزلة مثل ذلك. ا ه‍.(1/131)


[المؤلف] قلت: والجواب عن هذا الوجه قد تقدم، وأن عبارتهم وإن احتملت الاختيار فقد صرحوا بمعنى الجبر بقولهم: لا قدرة للعبد ولا تأثير لقدرته في الفعل وأن الخالق له والمؤثر هو الله سبحانه، وإنما الاختيار المذكور في صدر العبارة هو مجرد الاعتبار عند الأشاعرة والأحوال عند الماتريدية وقد نقلنا كلامهم بعينه لئلا يرتاب فيه مع أن الجويني ليس من الأشاعرة وكل من نص عليهم فليسوا من أئمة أهل الحديث الذين قصد الذب عنهم، فأما هم فلم يطلع لأحد منهم على نص في الاختيار أصلاً إلا أن يكون ابن القيم ففي ذهني أنه يثبت الكسب كالأشاعرة لكن [لم ] يحضرني مصنفه فانقل كلامه هذا.
وأما ابن تيمية الحراني فإنه لم يخرج عن إلزام الذهبي في جوابه عليه ومن تأمل ذلك الجواب عرف مقدار صاحبه من الهذيان والمغالطة وعرف أنهم إذا اضطروا قالوا: لا يسأل الله عن فعله ولا يعترض في حكمه، إشارة إلى أنه أجبرهم وأغواهم وكلفهم بغيره.
وأما تجويز عذاب من لا يستحق العذاب فذلك كتجويزهم عذاب المعتبر والفاعل غيره، وكتجويز عذاب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، وقولهم: إنه يأخذ قبضة فيلقيها في جهنم ولا يبالي.
وأما ثواب من لا يستحق الثواب فقد قطعوا بدخول الموحد دار الثواب والرحمة ولو قتل المصطفى صلى الله عليه وآله وعلي المرتضى عليه السلام وجميع العالم وزنا وسرق فيدخل الجنة على رغم أنف أبي ذر ـ رحمه الله ـ، فإن وجب دخوله النار فأياماً معدودة كما زعمت اليهود لعنهم الله ثم يصيرون إلى الجنة ويثابون في غير شيء حتى قال بعضهم: إن ابن ملجم يتأول في قتل أمير المؤمنين بخلاف قاتل عمر فزعموا أنه نصراني وكذلك قتلة عثمان تبرأوا منهم ولعنوهم ولم يتأولوا لهم كابن ملجم.
فإن زعموا أنهم مثابون في النطق بالشهادة واعتقاد التوحيد.(1/132)


فالجواب: إن التوحيد مع المعاصي غير مقبول وإلا لزم خطأ الصحابة في قتال أهل الردة وهم موحدون وما منعوا إلا الزكاة فاستدل عليهم الصحابة بأن الزكاة من حقوق التوحيد.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثاني: إن المعلوم ضرورة من مذهبهم خلاف ما ذكره، وإنما ألزمتهم بذلك المعتزلة مجرد إلزام، كما أنهم قد ألزموا المعتزلة القول بأقبح من ذلك في كثير من مسائل الكلام، والفريقان أعقل من أن يرتكبوا من الكذب المعلوم بالضرورة ما ارتكبه المعترض، فإن الكذاب إنما غرضه أن يعتقد صحة باطله...إلخ.
[المؤلف] والجواب: إن حواشي أَلْسِنَة سادات الإسلام وعلماء الأمة ومصابيح الظلام طيبة الكلام، ريها عطر، وشأنها الخير، وشأوها عزيز المرام، لا يقدر محاورتها بالقبح، ولا ترمي البريء بما ليس فيه، بل تتجاوز عن مساوئه وإن كان عنه صحيح.
أما قوله: إنه مجرد إلزام، فقد بلغهم فلم يستدركوه وتلك مصنفاتهم شاهدة عليهم حتى إن الأماثل منهم تركوا كلام الأشعري ظهريا في مسألة تكليف ما لا يطاق، وابن الحاجب والسعد في التحسين والتقبيح العقليين، والرازي في الكسب.
وأما قوله: إن المعلوم ضرورة من مذهبهم خلاف ما ذكره، فدعوى لا دليل عليها، فقد عرفناك بنصوصهم {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}[آل عمران:118] لكن ما زال التمويه ديدنهم، والتستر بجلباب الكسب الذي لم يقفوا على حقيقة هجيرهم فراراً من التصريح بالجبر وعن التجسيم بهبوبة ريح إثبات المغالطة بلا كيف، وعن الفرار من عقاب المعاصي بمجرد التوحيد.(1/133)


وأما إنكاره أن يكون أحد قال: إن الله يثيب العاصي ويعاقب المطيع، فهو صريح قولهم، أما اليهود والنصارى وغيرهم من الفرق فلا شك أنهم يتحاشون عن مثل هذه المقالة إلا أهل السنة فقالوا: إن الله سبحانه فدى عصاة الموحدين بأمثالهم من اليهود فيلزم أنه أثاب الموحد بدون توبة وعاقب اليهودي لا بذنبه، وقالوا: إن الله يأمر بما لا يريد ويقضي بالمعاصي ويغوي على قدر ما يريد، فإذا كان العاصي اتبع مراد الله وقضائه وغوايته وسلم لذلك فهو مطيع، وقد صرحتم أنه يدخل بعض العصاة النار لتطهيره من الذنوب فقد عاقب المطيع على [مقتضى] قولكم، والمترسل ـ رحمه الله ـ لم يفتر عليهم وإنما نقل عنهم الصحيح لا ما لا معنى له من قيد الاختيار مع عدم التأثير، مع أنك قد نقلت نقولات منها اللازم صحيحاً ومنها ما لا يشم رائحة اللازم فرضا عن الصريح فنقلت عن أئمتنا" قبول رواية أهل التأويل وعنهم هم والمعتزلة ما تقدم من المسائل الكلامية فمالك تعيب على الناس لبس دثار استشعرته؟ وكيف خلفتهم عما نهيتهم عنه؟!

[قدرة العبد وتعلقها]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثالث: إن هذا الاستدلال هو المعروف في علم المنطق بالمغالطة، قال المنطقيون: والمورد لها إن قابل بها الحكيم فهو سوفسطائي وإن قابل بها الجدلي فهو مشاغبي، وإنما قلت ذلك لأن المغالطة قياس يتركب من مقدمات شبيهة بالحق تفسد صورته بأن لا يكون على هيئة منتجة لاختلال شرط معتبر وهذا حاصل كلام المعترض، وبيانه من وجهين:
[الوجه الأول]: قوله عنهم: إنه يجوز أن يعاقب الله المطيع ويثيب العاصي، فهذه مقدمة باطلة تشبه الحق...إلى أن قال: الوجه الثاني في سلوكه مسلك المغالطة.
قوله: فلا فائدة في الطاعة، فإنه أوهم أن هذا من جملة مذهبهم ليتم له ما قصد...الخ.(1/134)


قلت: اعلم رحمك الله أن الأشاعرة ومن حذا حذوهم من المحدثين قالوا: الحاكم الشرع لا غير -أعني في ثبوت الثواب والعقاب- وقالوا: العلم سايق وأنه لا يقع من العبد إلا ما أراده الله وأنه الخالق لأفعالهم والمؤثر فيها مع ما قدمنا، ومن هنا تعرف أنه يعاقب المطيع صورة وذلك لعدم صدور الطاعة منه ويثاب العاصي صورة لعدم التأثير منه في المعصية وذلك نتيجة هذه المذاهب.
إذا عرفت صحة المقدمات مما ذكروا وجب أن المغالط هو غير المعترض؛ لأنه بنى مقدماته على اليقين من قولهم، والسيد محمد بنى في أكثر منقوله على قضايا كاذبة من ثبوت الاختيار غير محسوسة على نحو المحسوس ويعرف كذبها بمساعدة العقل لذلك في المقدمات من ثبوت الاختيار من قولهم (والقدرة حتى إذا وصل إلى النتيجة) وهو التأثير وبصلوح القدرة للضدين فمنعوا عنه امتناع العقل عن مساعدتهم إلى صحة المقدمات، فهذه هي المغالطة بعينها.
قال الصابوني ما لفظه: لا يوصف الله سبحانه بصفة نقص، فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير، وفسّر قوله صلى الله عليه وآله: ((والخير في يديك، والشر ليس إليك)) فقال: والشر ليس مما يضاف إليك إفرادا وقصداً حتى يقال لك في المناداة: يا خالق الشر أو يا مقدر الشر وإن كان هو الخالق والمقدر لها جميعاً...الخ.
وقال الغزالي: كل كفر وفسق وزنا ولواط فالله الخالق له والمقدر له، وقد صرح الرازي أن الله يفعل الفعل لا لحكمة، وقد قدمنا كثيراً من أقوالهم وأنه يلزمهم تكليف ما لا يطاق في مقتضى عباراتهم فظهر بهذا أنهم قلبوا العربية عن قالبها الصحيح وحرفوا الآيات عن معناها الصريح، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، وإن مقدمات المترسل صحيحة والنتيجة من أقوالهم صريحة لقولهم: إنه قد كتب ما أراد وعلم من سعادة وشقاوة، وأنه أمر مفروغ منه.(1/135)

27 / 46
ع
En
A+
A-