وقال: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف...إلى قوله: ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره.. إلى قوله: وكذلك يثبتون ما أنزله الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين، ثم سرد الآيات والأحاديث المذكور فيها بدعته هذه.
وبالجملة فإنهم منعوا من تأويل شيء من الآيات الكريمة والأخبار، فإن تعارضت الآيات أثبتوها جميعاً فتراهم أثبتوا آيات الاستواء على العرش ولم يتأولوها، وقوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:29]، ودلالة هذه غير تلك على ما حملوهن عليه من الإمرار على الظاهر من بادي الرأي، وأطلقوا على صفاته المناقضة، وعلى كتابه الاختلاف وعدم الموافقة فجهلوا أسرار القرآن بجهلهم بلاغة العربية، وأعماهم اللجاج عن مباينة الصفات لعقولهم التي استحوذ عليها الشيطان، ولقد جرى بيني وبين أحد الظاهرية مناظرة طويلة منها أنه حكى آيات الاستواء ومنع من تأويلها، وجعل قرار الباري سبحانه سطح العرش فألزمته عدم التأويل بكل آية في القرآن في حق الله سبحانه وتعالى فالتزم ذلك، فأمليت عليه قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ...}[المجادلة:7] الآية، والنجوى لا يكون إلا في الدنيا والعرش مباين للسماوات والأرض، وأمليت عليه قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[النور:35] فالتزم ذلك، فقلت له: أين ذهب في الليل مع عدم القمر؟ وكيف غلبته الظلمة؟ فإما أن تأول هاتين الآيتين وما شابههما أو لا، إن كان الأول فما في يدي أولى بالتأويل مما في يدك من غير دليل، أو الثاني لزم التعارض، فبهت ولم يناظرني بعد، وكان له صاحب يسمع فتركه وتاب، والله يمن بالهداية على من يشاء، ممن قصد التسليم بالحق وإن قل ما لديه من الدراية،(1/126)
لكن السيد محمد ـ رحمه الله ـ يحاول رد كلامهم الصريح إلى الصواب وينزلهم منزلته من التحقيق وذلك ممتنع الوجود وكأنه حسب أن تمويهه على كلامهم لا ينكشف للمتطلع وأنا لا نظفر بصريح جهلهم من مصنفاتهم ويأبى الله إلا أن يكشف للمؤمنين مساويهم على أنهم لو تأولوا كما تأولت لما ساغ لنا بعض النكير عليهم ولكن شاءك الغراب في بكوره.
وأما زعمهم أن ذلك مذهب الصحابة فغير صحيح كيف وهم أهل اللسان وأعرف الناس بالبيان، وأرباب الخطابة، وأملك الناس لزمام البراعة والبلاغة، وإنما البليد من رمى الألمعي ببلادته، والعي من قذف البليغ بعيه وبرادته، هذا وقد تقدم شيء من الرد على هذا الكلام.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الحديث الرابع: خروج أهل التوحيد من النار والشفاعة لهم إلى الوهاب الغفار وتمييزهم بذلك من بين الكفار، فإن المعترض أنكر ذلك أشد الإنكار، ونظمه في سلك ما يجب تكذيب راويه من الأخبار، وبنى كلامه في ذلك على شفا جرف هار، وتوهم أنه في ذلك موافق لإجماع أهل البيت الأطهار، وخطؤه ينكشف بذكر فائدتين يتضح بهما مذهب الحق المختار. ا ه.
فذكر في الأولى أن ذلك مذهب بعض المعتزلة وأبي القاسم البستي من الزيدية، قال: إن الحاكم نسبه إلى زيد بن علي عليه السلام ثم قال: وإلى ذلك ذهب من أئمة الزيدية الدعاة يحيى بن المحسن المعروف بالداعي والمهدي أحمد بن يحيى من المتأخرين...إلخ.
[المؤلف] أقول: أما رواية جواز ذلك عن المعتزلة فلا يضرنا وليسوا لنا بشيوخ ولم يرد فيهم عن النبي صلى الله عليه وآله أنهم قرناء الكتاب وأنهم لا يفارقونه إلى مورد الحوض والإياب، ولا أنهم سفينة نوح عليه السلام ولا باب حطة، ولا قال فيهم: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي...))الخبر، ولا وصى بهم سيد البشر صلى الله عليه وآله.(1/127)
فأما أئمتنا المتقدمون فالظاهر اتفاقهم على عدم خروج أهل النار منها كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18]، وقال تعالى: {لاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ}[آل عمران:77].
وأما الأخبار التي زعم أنها بلغت في ذلك حد الكثرة فلا يلزم الخصم لوجهين:
أحدهما: أنها من رواية المبتدعة الداعين إلى بدعتهم وقد نص أهل الحديث وغيرهم على رد مثل ذلك وإن كثر.
الثاني: إنها وإن كثرت فلم تتواتر لفظاً ولا معنى، والمسألة قطعية لا يؤخذ فيها بالظني.
فإن قيل: إن آيات الوعيد عامة وهذه الأخبار مخصصة وتخصيص القطعي بالظني جائز.
قلنا: التخصيص بيان وآيات الوعيد وإن عم لفظها فالمقام صيرها من قسيم الخاص لو لم يكن كذلك لكان قد تعبدنا بما ليس واقعاً من عدم خروجهم عند نزول الآية فظهر أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وبهذه المقالة يعرف أنهم فتنوا كما فتن بنو إسرائيل [حين] قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً}[البقرة:80] قالوا: يطهرهم من الذنوب الدنياوية، فرد الله عنهم هذه المقالة بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:80،81]، فعمت كل من أحاطت به خطيئته في مقام بيان وتعليم ومحاجة بين الفريقين، ونزولها جواباً على الجميع فامتنع تخصيصها في غير مقام البيان مع قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النساء:123].(1/128)
وأما الكلام على خبر محاجة آدم وموسى × وخبر موسى وملك الموت × فمع إمكان تأويلهما، فكلام السيد محمد هو الصواب وأولى من تكذيب الراوي مع العدالة ولا شك أن التأويل ممكن.
وأما وجوب الإيمان به مع عدم إمكان التأويل فلا يجب ذلك مع كون المسألة قطعية لا يؤخذ فيها بالظني وهذه الأخبار ظنية وقد ذم الله تعالى متبع الظن فكيف يجب الإيمان به، بل يرد الخبر.
فأما المحدثون فمن قواعدهم أن من فحش خطؤه وكثرت مناكيره استحق الترك وجرحوه بذلك.
وأما إلزامه للمترسل قبول هذه الأخبار ربما روي من الإجماع على وجوب قبول خبر المتأول عن أئمة الزيدية فقد تقدم الجواب عليه، مع أنا لو سلمنا له ذلك فقد شرط العلماء من الزيدية وغيرهم اعتقاد الراوي تحريم الكذب ورجحان الضبط فيجب عليه تعريفنا حصول الشرطين في رواة هذه الأخبار وأنى له ذلك أقصى ما يكون لزوم الوقف مع اختلاف المذاهب وظهور الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله واختلاف مراتب العدالة والحفظ.
وأما قوله: إذا روى الثقة الإجماع واطلعنا على خلافه لزمنا العمل برواية الثقة، فنقول: بل ذلك محل نظر وترجيح للناظر؛ إذ رواية العدل لا تثمر غير الظن، فإن غلب على ظنه وهم الثقة أو أنه تكلم بقدر علمه حيث لم يجد مخالفاً قدم رواية من بحث فوجد المخالف لكونه أولا لاستناده إلى العلم بالوجدان بخلاف النافي لاستناده إلى الظن بعدم المخالف مع أن الأكثر نفى حجية ما هذا حاله.(1/129)
وأما قوله: إن الإجماع ـ يعنى بقبول رواية المتأول ـ كان في زمن الصحابة والتابعين، فقد روينا عن آبائنا وابن عباس رحمهم الله إنكار قبول أخبار مخالفيهم وتكذيبهم، أما أمير المؤمنين عليه السلام فخطبه معروفة في ذلك حتى قال: ((فأين يتاه بكم))؟ وحتى رمى أبا هريرة بالكذب وأبا مسعود البدري، وكذا بنو هاشم جميعاً رموا أبا بكر بافتعال خبر: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث))، ورمته الأنصار بافتعال خبر: ((الأئمة من قريش)) وكذب الشيخان وغيرهما عثمان في قوله: إن النبي صلى الله عليه وآله وعده برجوع الحكم بن أبي العاص، وكذلك عمر تهدد أبا هريرة، وعمار رمى أبا موسى بالنفاق وكذبه، وابن الزبير كذب في دعواه شعر المزني عند معاوية، ومعاوية افتعل كتاب ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وآله أمره أن يسكن الشام، وادعى أنه كاتب الوحي إلى غير ذلك من مفترياته، وبنو هاشم وأكثر المسلمين يكذبونه في ذلك، وابن عباس وعائشة ردا خبر أبي هريرة في الاستيقاظ وكذباه، وعمر رد خبر فاطمة بنت قيس، وأمير المؤمنين عليه السلام رويتم عنه أنه كان يحلف الصحابة في عهد أبي بكر؛ فهل ذلك إلا لتهمته لهم بالكذب، وكذب الهاشميون المغيرة في دعواه أنه آخر الناس عهداً بلحد رسول الله صلى الله عليه وآله، فأما غيرهم من صغار الصحابة وفسقة صفين فأمرهم معروف، وقد تقدم ما فيه كفاية فلا نعيده اختصاراً وإنما يعجب الناظر من تعديلهم لراوي مثالب الأنبياء" كهذين الخبرين، وخبر داود ويونس وقصة نزول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}[عبس:1] مع تصريحهم بعصمة الأنبياء عن الكبائر، فإذا روى الراوي شيئاً من أحوال الصحابة وما جرى بينهم أو خبراً في علي عليه السلام يقتضي فسق المحاربين له ذموه ونسبوه إلى الرفض وأطلقوا [على] روايته الإنكار وكذبوه، وبعضهم يقول: خبيث يروي مثالب الصحابة حتى قال بعضهم في بعض: الماص بظر أمه .. إلى غير ذلك مما يطول ذكره يعرفه من تطلع على كتب الجرح والتعديل.(1/130)