وما روى أئمتنا": ((لا يحل لعين تطرف ترى الله يعصى حتى تغير أو تنتقل))، وإجماع الصحابة على الإنكار على عثمان، ومع هذا كله فيلزمك جواز العقد للفاسق والنهي عن الإنكار عليه مطلقاً، وحينئذ فقد ناقضت ما قد قدمت.
وأما قولك: لكن صحته غير مسلمة.
قلنا: القول في حججك مثل مقالتك؛ لأنها من رواية من يدعو إلى بدعته ويتعسف مثلك على أن من العجب دعواك الفطنة في الإصدار والإيراد وجميع ما يتعلق به الحجج من أول الكتاب إلى آخره من الطرق المتنازع فيها وعلى كل حال فجميع ما تورده من الأخبار لا تحج المترسل ـ رحمه الله ـ لكون طرقها من عين المتنازع فيه، فاستدلالك بعين المتنازع فيه من هفوات النظر وضعفك عن مقاومة أقرانك وقلة الخبرة بقواعد الجدليين، أما شرطوا أن لا يحتج على مجادلة إلا بحجة يسلم صحتها الخصم أو قد ثبتت بدليل لم يستطع الخصم رده لظهور دلالته على المطلوب والحاصل هنا غيره.
واعلم رحمك الله أن أعظم مكيدة كيد بها الإسلام ما لهج به المحدثون من إبطال البرهان العقلي، ثم تضعيفهم وردهم لجميع رواية العدلية، ولما لم يتجاسر ذوو الحياء منهم على جرح قدماء أئمتنا جرحوا الرواة عنهم حتى غمرت أكثر الأخبار الصحيحة عن أولئك الأئمة، وتداول الناس مختلقات علماء السوء بما تقربوا به إلى أئمة الجور من الأموية والعباسية حتى استوزر في ممالك الإسلام من الطوائف الذمية بل أمروا علينا، ومضت فينا أحكام الفرق الكفرية، فأعظم بها مكيدة كيد بها الإسلام وفاقرة مهمة ضعضعت أركان شريعة سيد الأنام. رجع.
وأما قولك في الرد على الرأي: وقد أجمع العقلاء وأطبق أهل الرأي على وجوب احتمال المضرة الخفيفة متى كانت دافعة لما هو أعظم منها...الخ، فغير مسلم لك خفة جور الوالي، كيف وبصلاحه صلاح البلاد والعباد، وبفساده فسادهما كما جاء في الأخبار، فالرد هنا غير قويم لعموم المضرة.(1/116)
وأما قولك: لا يصلح الناس هملا وأن الغالب على بلاد الإسلام لم يستأذن أئمة العدل. ا ه.
فمن ثمرات التقاعد عن النهي عن المنكرات وتقرير الجورة على السيئات وجرحكم للخارج عليهم وتسويدكم أهل السنة معهم، ولو استقام العلماء لصلح أمر الجمهور ولم يكن لظالم ولاية، ولم يقع له بداية ولا نهاية (لكن كيفما تكونوا يولّ عليكم) كما سلط على بني إسرائيل بخت نصر من أجل معاصيهم {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد:11].
أما أن كلامك هذا يصلح حجة، فلا؛ لأن البلاد قبل الإسلام قد استوجزت أحكام الشرك، أفيكون ذلك حجة؟
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوهم الثامن عشر: قدح المعترض على المحدثين بالرواية عن الزهري وجرّح الزهري بمخالطته للسلاطين فقد كانت منه ومن غير واحد ممن أجمع أهل العلم على عدالتهم وفضلهم وميلهم مثل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام والقاضي أبو يوسف ومن لا يأتي عليه العد، وأما الإعانه على المظالم فدعوى على الزهري غير صحيحة.
[المؤلف] قلت: الحجج على جواز المخالطة إذا لم يكن معها معصية ظاهرة ولنذكر منها وجوهاً:
الوجه الأول: بالحديث الصحيح والنص الصريح وهو قوله صلى الله عليه وآله في أئمة الجور: ((فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض يوم القيامة، ومن غشيها فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض)). رواه الترمذي في موضعين من جامعه بإسنادين مختلفين أحدهما صحيح وعليه الاعتماد والثاني معلول. ا ه.(1/117)
والجواب عن هذا الخبر: أنه من طريق داعية إلى مذهبه وذلك مردود على صاحبه كما قرّره علماء هذا الشأن سلمنا، فالحديث مطلق يصلح للتقييد بالآيات والأخبار الموجبة لمهاجرتهم ونهيهم عما هم عليه من البهتان كما فعل الصحابة مع معاوية لعنه الله إذا وفدوا عليه، والزهري وإن تؤول له فقد روي أنه كان جندياً وأحد الحرس لخشبة الإمام زيد بن علي عليه السلام وكان من المنحرفين عن علي عليه السلام .
روى جرير بن عبد الحميد عن محمد بن شيبة قال: شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً عليه السلام فنالا منه، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فجاء حتى وقف عليهما فقال: أما أنت يا عروة فإن أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك، وأما أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك بيت أبيك، وقال له ـ في كلام جرى بينهما في معاوية ـ: كذبت يا زهري.
وقال المؤيد بالله في الزهري: هو في غاية السقوط، قال عليه السلام : وقد روي أنه كان أحد حرس خشبة زيد بن علي. ا ه.
أقول: قد روى المحدثون أخباراً في ذم من سب أحد الصحابة وفي بعضها التصريح باللعن فعلى هذا فقد صح عن الزهري الذم لعلي عليه السلام فإما أن يصدق عليه ما رووا أو يقال: إن عليا وصي رسول الله صلى الله عليه وآله ليس من الصحابة.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : ومن ذلك ما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه نهى عن المسألة إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، والمسألة لا تمكن إلا بضرب من المخالطة. ا ه.
[المؤلف] والجواب: إن لفظة سلطان مشتركة بين أئمة العدل وأئمة الجور فيمكن رد الثاني بالمقيدات له ولأمثاله كما قدمنا مع إمكان المسألة بدون تكرر المخالطة المنهي عنها من الإيناس وغيره مع أنه ليس فيه ما يقتضي النهي عن المهاجرة فذلك يمكن بطلب الحق من الظالم لا غير.(1/118)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثاني: قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8]، وعمومها وسبب نزولها يستلزم جواز المخالطة ونحوها. ا ه.
[المؤلف] والجواب: إن الآية متعقبة بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}[التوبة:36]، وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[التوبة:5] وغيرهما مما يقتضي معناهما. ا ه.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوجه الثالث: قصة يوسف عليه السلام ومخالطته لعزيز مصر وقوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ}[يوسف:55]...إلخ.
[المؤلف] والجواب: إن الآية في شرع من قبلنا وقد ورد في شرعنا ما يخالفها فلا حجة فيها كما قررتم سابقاً، قال سبحانه وتعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}[آل عمران:28] {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة:22] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[التوبة:23].(1/119)
هذا ولا يخفى أنه قد ورد التحذير عن غشيان أبواب [أهل] الجور، فأخرج السيوطي في الجامع الصغير وهو مما يحتج به عند المحققين لالتزامه أن لا يذكر فيه موضوعاً إلى آخر ما ذكر في ديباجته عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلاطين ويداخلوا الدنيا فإذا خالطوا السلطان ودخلوا في الدنيا فقد خانوا الرسل فاحذروهم)). وقوله صلى الله عليه وآله لكعب بن عجرة: ((أعيذك بالله من إمارة السفهاء، إنه سيكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولست منه ولن يرد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسيرد عليّ الحوض)). الخبر في مفاتيح الغيب عن عبد الرحمن بن ساباط عن جابر مرفوعاً، وعند أصحابنا قوله صلى الله عليه وآله: ((يكون في آخر الزمان علماء يُزهدون ولا يَزهدون ويرغبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، وينهونهم عن غشيان السلاطين ولا ينتهون...)) إلى أن قال: ((أولئك أعداء الرحمن)). ا ه.
وقوله صلى الله عليه وآله: ((ما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً))، وقوله صلى الله عليه وآله: ((اتقوا أبواب السلاطين...))الحديث، وغير ذلك من روايات الفريقين، على أنا لو سلمنا جواز مداخلتهم لما منع من تهمتهم فيما رووا وأن رواياتهم على حدتهم لا تقبل ـ رجع.(1/120)