وأما خبر: ((إنها تأجج لهم نار فيقال: ردوها، فيردها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل، وتمسك عنها من كان في علم الله شقياً لو أدرك العمل، فيقول الله: إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم)). ا ه‍.
فالجواب عنه من وجوه:
الأول: روي وقفه عن أبي هريرة.
ثانياً: إن أبا هريرة غير مرضي الرواية عند المعتزلة والزيدية إذا انفرد، وتصحيح أئمتك لا يلزم خصمك.
ثالثاً: إن فيه إثبات التكليف في الأخرى الممنوع بصرائح الأدلة وخبر: ((يولد المولود على الفطرة)) ينافيه، وعلى كل حال فالخبر وإن صححه أحمد وغيره فهو مما يجر إلى بدعتهم مع معارضة القطعيات، لكن الهوى ألجأ اللبيب إلى مدارك الجهل وحمله عليه بعد المعرفة.
لهوى النفوس سريرة لا تعلم .... كم حار فيها عالم متكلم
وأما قوله: إنه يجوز أن يدخلوا النار ولا يتألموا كالحيات..الخ.
فاعلم أن ذلك وإن كان فهو ممنوع؛ لأن النيران هي منزل غضب الرحمن ودخول أهلها فيها من مقامات الهوان فكيف يهان من لا يستحق الإهانة من الولدان، وقياسهم على الحيات ممنوع أيضاً لكون الحيات خلقوا من جنس العقاب على المعاقبين فكيف يتأذى من جنسه أو نفسه على أنه لو صح للعصيان حكم في الآخرة للزم أن تصح التوبة ليقابلهما تكليفا والفرق بينهما وبين البالغ في الدنيا عاصياً والطفل في الآخرة للاجتماع في المعصية والطاعة بحكم صرف، ومن هنا يمكن أن لا يدخل النار أحد من المشركين لإمكان التوبة وأن تصح توبة فرعون لعنه الله بقوله: {أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}[يونس:90].
إن من تجويز مثل هذه الهنات ما تقشعر له قلوب المؤمنين وتسيل العبرات، فارفع رأسك عن البذا يا من زعم أن عبادة الأصنام جائزة ثم افترى وقال: إن الله أمرنا بها، فبينا من يقول قضاه الله علينا إلى غير ذلك من الأباطيل. سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.(1/111)


نعم وأما رده على المعترض حكايته عن ابن بطال إجماع الفقهاء بأنهم يمنعون الخروج على الظلمة لما نقل من علماء الأشاعرة فقد نقل مثل نقل ابن بطال أبو بكر المقري فإنه أيضاً ادعى الإجماع على تحريم الخروج على الظلمة وغيره، وإن كان قد رد بعضهم على من ادعى الإجماع وأنكروا ذلك، ولكن المعترض ـ رحمه الله ـ لم ينفرد بالنقل.
وأما إنكاره ذلك الفعل على المحدثين فليطالع كتب الجرح والتعديل تراهم يغمزون من يرى الخروج على الظلمة كسفيان والحسن بن صالح وغيرهما، وقد نقل عن ابن تيمية ما معناه: إن الحسين عليه السلام لو لم يتدارك نفسه بطلب وصوله إلى يزيد لعنه الله...الخ، ونقل عنه ما هو أشنع من هذا كقوله: قتل بسيف جده، وكذا ذمهم لمن خرج مع المختار من العلماء وإنكار مثل ذلك مكابرة.

[الولاية والإمامة]
[ابن الوزير] وأما قوله: فاعلم أن الفقهاء لم يخالفونا في شرائط الإمامة التي زعم المعترض أنهم خالفوا فيها...إلى قوله: فإن قلت: أين موضع الخلاف بينهم وبين المعتزلة والشيعة؟
قلت: في موضعين: الموضع الأول: إنهم ذكروا أن الخروج على أئمة الجور متى كان مؤدياً إلى أعظم من جورهم من إراقة الدماء وفساد ذات البين حرم تحريماً ظنياً اجتهادياً...إلى قوله: وللزيدية والمعتزلة ما يلزمهم موافقة الفقهاء على هذا فإنهم نصوا في باب النهي عن المنكر على أنه لا يحسن متى كان يؤدي إلى وقوع منكر أكبر منه والمسألة واحدة. ا ه‍.
[المؤلف] أقول: إن الفقهاء سووا بين أئمة العدل والجور في وجوب الطاعة وإن منعوا من نصب الفاسق ابتداء، وأما إلزامه الزيدية موافقة الفقهاء، فالمسألة ليست على عمومها؛ إذ ذلك في المسائل الخاصة لا فيما يعم الأمة والأئمة.(1/112)


ثانياً: إن إراقة دم الباغي والفاسق غير محرم في جنب وجوب النهي عن المنكر فافترق الحال بين المسألتين {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}[البقرة:193] {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات:9].
أما إراقة دم المؤمن فمن الألطاف الموجبة لدخول الجنة {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3]، على أن أدلة ما أشرنا إليه مبسوط في مواضعه.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : وقد تمسك جمهور الفقهاء في هذا -يعني في جواز أخذ الولاية من الظالم- بظواهر الأحاديث الواردة في طاعة السلطان...إلى قوله: والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة لا حاجة إلى ذكرها، وفي بعضها ما يدل على أن السلطان قد يكون جائراً بلفظ خاص مثل الحديث المرفوع: ((وإنما الإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه فإن عدل كان بذلك أجر وإن جار كان عليه بذلك وزر)) رواه البخاري، وحديث حذيفة الذي في مسلم وفيه: ((فإن كان لله خليفة في الأرض فاسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)). والحديث الذي فيه: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم، قال: ((اعطوهم حقهم واسألوا الله حقكم)). ونحو هذا مما يطول ذكره، وبقية الأحاديث تدل على ذلك بإطلاقها فإن المرجع في تفسير السلطان إلى اللغة. ا ه‍.
[المؤلف] والجواب على هذه الأخبار مع فرض صحتها:
أما الأول فخرج مخرج الترغيب والترهيب على الأمراء وليس فيه الأمر بإقرارهم على الوزر.(1/113)


وأما الثاني فمقيد بما إذا كان أخذه الأموال أو ضرب الأبشار بحق فإنه يجب طاعته على ذلك كيف وهو خليفة الله في الأرض، فأما الظالم فليس بخليفة لله {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، أما إذا كان أخذ المال ظلماً والضرب كذلك فلا لقوله صلى الله عليه وآله: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)). والخبر من المتلقى بالقبول، ومثله: ((قاتل ولو على عقال بعير))، ومثله: ((من قتل دون ماله فهو شهيد))، ودلالة هذه الأخبار أظهر على ما قلنا بخلاف خبركم فإنه يحتمل أن يأخذ ماله أو يضربه ظلماً أو حقاً فيقدم الغير المحتمل وهو أدلتنا على المحتمل وهو دليلكم.
وأما الثالث وهو قوله: ((واسألوا الله حقكم)) فليس في هذا الأمر أيضاً ما يدل على وجوب الطاعة وعدم الخروج.
والجواب عليهما إجمالاً: إن الدليل لو أفادكم على زعمكم أخص من الدعوى؛ لأنكم قلتم إنه يقتضي عدم المنازعة، وقد قلتم: إذا أمكن بغير إراقة دماء وجب المبادرة بعزله، وقلتم: إنه لا يجوز العقد للفاسق، فدلالة الأخبار هذه على زعمكم تحجكم فما أجبتم به فهو جوابنا.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وأما المعتزلة والشيعة فاحتجوا بالسمع والرأي، أما السمع فبعمومات مثل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124]، وللفقهاء أن يجيبوا عن هذه الآية من وجوه:
أحدها: أن الإمامة المذكورة في الآية هي النبوة؛ لأن إبراهيم عليه السلام سأل لذريته الإمامة التي جعلها الله له وهي النبوة.
وثانيها: أن الإمامة التي في الآية مجملة محتملة لإمامة النبوة وإمامة خلافة النبوة وأدلة الفقهاء المتقدمة نصوص في خلافة النبوة فكانت أخص. اه‍.(1/114)


[المؤلف]والجواب عن الأول: أن العموم لا يقصر على سببه مع عموم اللفظ كما قرر في مواضعه.
وعن الثاني: أن الآية شاملة لمطلق الرئاسة نبوة أو خلافتها خرجت النبوة بالأدلة على امتناعها بموت خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وبقيت الخلافة، والنصوص التي تقدمت من حجج الفقهاء قد تقدم ما عليها من الأجوبة فلا تعارض الآية لصيرورتها يوم النزول من قسيم الخاص في الخلافة على أن الإمام هو المتبع فلو سلم لكم ما ادعيتم من مدلول الأخبار وعمومها في كل متبع لوجبت طاعة الكافر كذلك لوجود العلة فيه وهو الاتباع ولكون عزله يفتقر إلى سفك الدماء وإثارة الدهماء والفرق تحكم، ولو أنصف السيد محمد ـ رحمه الله ـ لعلم أن القوم يحرمون الخروج على الظلمة، وينهون عنه جهدهم، ويزينون طاعتهم، ويختلقون الأخبار فيما يوافق غرضهم، ويقبلون صلاتهم، ويأنسونهم بأكل مطاعمهم والصلاة خلفهم.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وثالثها أن الآية من شرع من قبلنا وقد ورد في شرعنا ما يخالفها ولا يجوز العمل بشرع من قبلنا مع مخالفة شرعنا له إجماعاً، وسائر أدلة المعتزلة والشيعة من هذا القبيل، إما دليل صحيح في لفظه لكنه ليس بنص أو دليل نص في المسألة لكن صحته غير مسلمة. ا ه‍.
[المؤلف] والجواب: أما قوله: فقد ورد ما يخالف شرع من قبلنا فغير مسلم اللهم إلا أن يكون ذلك مفهوماً من قوله: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة:22]، وقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات:9] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}[البقرة:193].(1/115)

23 / 46
ع
En
A+
A-