الثالث: الأحوال أي الواسطة بين الموجود والمعدوم بأن يقال: الشيء إما أن يثبت له الوجود أو يثبت له العدم فتحصل الواسطة وهي ما لا يثبت له الوجود ولا العدم، وهذا بناء على أن الثبوت أعم من الوجود؛ لأن كل موجود ثابت ولا عكس...إلى أن قال: وإن كان ثابتاً -يعني غير موجود ولا معدوم- فهو الحال وهي إضافيات لا تعقل إلا مع أمر آخر هو ملزوم لها وهي ثلاثة أقسام:
الأول: النفسية وهي ما لا يصح توهم ارتفاعه عن الذات مع بقائها ككونها جوهراً أو موجوداً أو ذاتاً أو شيئاً.
والثاني: المعللة كالعالمية والقادرية ونحوهما.
والثالث: المعنوية غير المعللة كالضرب والايقاع والأحوال إما حادثة أي متجددة بعد عدم ككون زيد أبيض اللازم لبياضه فإنه لا يعقل كون زيد أبيض إلا إذا تعقل البياض، وكونه كاتبا اللازم لكتابته أو قديمة له تعالى كوكنه تعالى قادراً اللازم لعدله قادراً اللازم لقدرته.
والرابع: الأمور الاعتبارية وهي قسمان: انتزاعية من هيئة ثابتة في الخارج كقيام الصفة بالموصوف كقيام البياض بزيد مثلاً فهو ثابت في نفسه وحاصل في الذهن ومنتزع من زيد الأبيض الموجود في الخارج، واختراعية كبحر من زئبق فهو حاصل في الذهن فقط، والأول لا يتوقف على اعتبار معتبر، والثاني يتوقف عليه والفرق بين الحال والأمر الاعتباري أن الحال قار للذات أي وصف لها والأمر الاعتباري قار للصفة، فإن قيام القدرة بالذات الأقدس وصف للقدرة وقيام البياض وصف للبياض وما كان قادراً للذات أقوى مما كان قادراً للصفة. ا ه.(1/106)
قلت: والحاصل أن قولنا: زيد أبيض فتصور البياض هو الحال وتصور كون البياض قائماً بذات زيد هو الأمر الاعتباري فظهر من هذا أنها أفعال قلبية، وأن قولهم: الاختيار هو هذان الخيالان على أن عليهم إشكالاً في ذلك أيضاً بما ذهبوا إليه من تفسير قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان:30] أن الاستقامة بالمشيئتين وهو معنى تركب العلة في التأثير بناء على أن متعلق المشيئتين هو الاستقامة، وعلى ذلك فقد انتفى الاختيار، أما أئمتنا" فقالوا: بل المعنى وما يحدث لكم من مشيئة إلا أن يشاء الله أن تشاءوا أي أن يكون لكم مشيئة واختيار فمتعلق المستثنى هو مشيئة العباد واختيارهم لا إكراههم، قال سبحانه وتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ...} الآية[البقرة:156].
إذا تأملت لكلامهم وتدبرت لخيالاتهم وكم حاولوا تغطية الخبر بتصورات خالية أو أمور اعتبارية مرجعها الخيالات النفسانية تحقق لديك أن السيد محمد ـ رحمه الله ـ قد أتعب نفسه في تنزيه القوم ومسخ تصانيفه بسماجة التعسف من أجلهم.
ما لابن إبراهيم أنكر قولهم .... بالجبر بعد النص والتصريح
ما لاختيار خيالنا يابن الأولى .... إن البلية ما جنى الترجيح
تالله لو أنصفت ما زكيتهم .... كلا ولو أسهبت في التلويح
قد أعرب المكنون من هفواتهم .... كتب سمت بالدرس والتصحيح
دع عنك قوما قد شئَوْك بجهلهم .... واضرب بقولك مطلق التسريح(1/107)
قال أبو عثمان إسماعيل الصابوني في رسالته التي حصر فيها مذهب المحدثين ما لفظه: ومن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل مريد لجميع أفعال العباد خيرها وشرها لم يؤمن أحد إلا بمشيئته ولم يكفر أحد إلا بمشيئته ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء أن لا يعصى ما خلق إبليس فكفر الكافر وإيمان المؤمن بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته أراد كل ذلك وشاءه وقضاه ويرضى الإيمان والطاعة ويسخط الكفر والمعصية قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}[الزمر:7]. ا هـ.
وقال في موضع آخر ما لفظه: ومن قول أهل السنة والجماعة في اكتساب العباد أنها مخلوقة لله تعالى لا يمترون فيه ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا القول وينفيه، ويشهدون أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا حجة لمن أضله الله عليه ولا عذر له لديه قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:149] وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي...} الآية[السجدة:13]، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ...} الآية[الأعراف:179]، سبحانه خلق الخلق بلا حاجة إليهم فجعلهم فرقتين فريقاً للنعيم فضلاً وفريقاً للجحيم عدلاً، وجعل منهم غوياً ورشيداً وشقياً وسعيداً وقريباً من رحمة الله وبعيداً {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:23].
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوهم الخامس عشر: وهم المعترض أن مذهبهم القول بجواز تكليف ما لا يطاق وليس كذلك فلم يذهب منهم إلى هذا إلا الأشعري والرازي.(1/108)
[المؤلف] أقول: لا إشكال أن المحققين قد نزهوا أنفسهم عن هذا القول واستقبحته عقولهم ولكن مع قولهم إن المعلوم واجب الوجود لئلا ينكشف علمه جهلاً ثابتاً في الأزل.
وقولهم: إن الكفر بمشيئته وإرادته وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويأمر بما لا يريد، أليس طلبه سبحانه الإيمان من الكفار تكليفاً بما لا يطاق، كيف وقد ذرأهم لجهنم وختم على قلوبهم وطبع عليها.
وقالوا أيضاً: إن القدرة مقارنة للمقدور غير متمكنة من الضدين.
هذا ومن تأمل منهم لكلامهم أراح نفسه من تعب التمويه وصرح به مع معرفته أنه قبيح ولا يتجاسر عليه إلا سفيه لكن تغطية الشمس من العناء، وتبصير ضوءها الرائي من البلاء.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوهم السادس عشر: وهم المعترض أنهم قد دفعوا الضرورة في تجويز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم. ا ه.
ثم نفى ذلك عن محققيهم واستدل وأنصف لكن لو سلمنا للنافي فغايته عن أهل النص به لا عن غيرهم مع شهرته عنهم فليتأمل.
وأما رده على المعترض بأن عدم تعذيبهم غير ضروري أعني قطعياً وأن من أثبته ليس بكافر؛ لأن سلفنا قالوا: إنهم متأولون.(1/109)
[المؤلف] فالجواب عنه: إن أراد أحد الأمرين إن كان إنكارهم لضرورية الدليل مكابرة فكفرهم كفر جحود، وإن تعلقوا بشبهة فكفر تأويل وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل الأصول، أما كون الدليل على عدم تعذيبهم قطعياً فمن العقل والنقل، أما العقل فظاهر، وأما من النقل فمتفق عليه في عدم تكليفهم في أنفسهم، وأما بذنب آبائهم فلقوله تعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[النجم:33] وفي آية: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[فاطر:18] ولقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:286] بزيادة التاء والزيادة في اللفظ من الحكيم زيادة في المعنى، وهاتان الآياتان محكمتان في مقام بيان لا يجب تأخيره عن مقام البيان، وفي معناها آيات أخر: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286] مع الخبر المتلقى بالقبول: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ..)).
وروى أبو طالب الحسني ـ رحمه الله ـ بسنده إلى عباد بن منصور عن أبي رجاء عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عن أطفال المشركين قال: ((هم خدام أهل الجنة)).
فأما حديث ابن عمر: ((إنه ليعذب ببكاء أهله)) فقد رده من يعتبر برده من الصحابة ببيان كيفية ورود الخبر مع استنادهم إلى السماع معه وصرحوا بوهم ابن عمر في روايته لهذا الحديث.
وأما حديث: إنا نغير على المشركين فنصيب من أولادهم فقال: ((هم من آبائهم)). ا ه.
فذلك في جواز الاسترقاق وإلا فقد ورد النهي عن قتلهم مع أنه معارض لحديث: ((يولد المولود على الفطرة)) سلمنا جري الحكم عليهم في دار الحرب مجرى أحكام الآباء، أما في الآخرة فلا لما قدمنا على أن الآحاد والموهومات لا تظنن القطعي لو كان ذلك لما سلم لنا قطعي لكثرة الوهم والكذب على النبي صلى الله عليه وآله.(1/110)