فالحركة باعتبار نسبتها إلى قدرة الله وتكوينه تسمى خلقا وباعتبار نسبتها إلى قدرة العبد تسمى كسباً، وتصوير الملائم واستحضار كون المراد محبوباً للنفس بالعلم القائم بها الذي صار ملكة راسخة فيها من تكرر الجزئيات الملائم عليها؛ أي لكون متصور اللازم في ذلك العلم والقصد والإرادة الجزئية أي الكون مريدا اللازم للإرادة الكلية وتعلق القدرة الحادثة بالمقدور هو الكسب أي الكون قادرا للازم للقدرة وليس هي من الوجوديات؛ لأنها إما أحوالا أو أموراً اعتباريات والخلق ما يقع به المقدور لا في محل القدرة، ويصح انفراد القادر بإيقاع المقدور بذلك الأمر، وعلى هذا فالفعل الاختياري للعبد داخل تحت قدرة الله تعالى وتكوينه خلقاً لتعلقه بوجود الفعل وتحت قدرة العبد كسباً لتعلقها بوصفه كما يرشد إليه قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال:17] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96] فقد أثبت لذاته العلية الخلق ولنا العمل والكسب، وعلى الإرادة الجزئية الكسب يترتب الثواب والعقاب.
وذهب (الأشعري) إلى أنه تعالى قد أجرى عادة أنه يوجد في العبد قدرة واختياراً فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه في فعله المقدور مقارناً لها أي لقدرة العبد وإرادته فيكون فعل العبد مخلوقاً لله ابتداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك تأثير أو مدخل في وجوده سواء كان محلا كما في شرح المواقف. ا ه.
قال (عبد السلام) على (الجوهرة): يسمى أثر القدرة الحادثة كسباً وإن لم تعرف حقيقته.
قال الأمير: إنا نعرفها...إلى قوله: وإن عجزت عن بيانها العبارة فيكفي الشعور بها إجمالاً.(1/101)
وقال (البيجوري) في كلام له: والخالق الحق منفرد بعموم التأثير، ومن كلام له على الجوهرة أيضاً: وبالجملة فليس للعبد تأثير ما فهو مجبور باطناً مختارٌ ظاهراً والله تعالى لا يسأل عما يفعل.
قال في (فيض الرحمن على شعب الإيمان): والحاصل أن أهل السنة تبعوا النصوص الشرعية فأسندوا الخلق لله في أفعال العبد الاختيارية وأثبتوا لهم الاختيار فيها والكسب إلا أنهم اختلفوا في الكسب، فعند الماتريدية: هو تعلق القدرة الحادثة بالمقدور وأثرها وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية مثلاً.
والأشعرية قالوا: الكسب عبارة عن مقارنة قدرة العبد للفعل في كونهما مخلوقين معاً ولا دخل للعبد في الفعل سوى كونه محلاً.
والجبرية نفوا الاختيار والكسب.
والمعتزلة نسبوا خلق أفعال العباد الاختيارية إليهم بقدرة خلقها الله تعالى فيهم. ا ه.
فانظر إلى نصوصهم نقلناها من كتبهم المعتمدة.(1/102)
أقول: وعلى كل ذلك الهذيان الذي لا يعقله أكثر النحارير فجوابنا إن كان القدرة من الله للعبد موجبة انتفاء المشارك؛ لأنه الموجب مستقل بالتأثير وغيره طرد في المؤثر وبذلك يبطل مقدور بين قادرين.
فإن قالوا: الكسب غير الفعل الواجب عن القدرة؛ لأن الفعل كون وهو ذات كالجوهر ولا يقدر على الذوات غير الله تعالى.
قلنا: بل صفة مقدورة للعبد وإلا لم يتحقق الكسب إن كان الفعل ذاتاً مع أنه لا يمتنع خلق الذات على من أقدره الله كما صرح بذلك الجويني وأبو إسحاق ولأن الكسب إن كان أمراً اعتبره العبد في فعل الرب من طاعة أو معصية أو نحو ذلك لم يصح تعلق الاعتبار بفعل الغير وإلا عم الفعل غير الفاعل فكان فعل الواحد طاعة ومعصية لكثيرين إذ اعتبروهما في فعله فأثيبوا وعوقبوا بفعل غيرهم وذلك باطل بضرورة العقل والنقل، وإن كان الكسب أمراً وجودياً متميزاً فهو كون آخر والمفروض أن ليس هناك إلا كون واحد أثر في الأثر والعبد لا يقدر على الكون أو غير متميز بل مقدور بين قادرين اجتمع فيه النقيضان الوجوب بإيجاب القدرة والجواز باختيار الكسب وانتفاء المشاركة بينهما فيه إن استقل به أحدهما لما تقدم من أن الموجب مستقل بالتأثير وغيره طرد في المؤثر.
واعلم أن السنية فرضوا أن مشتهيات أنفسهم واقعة بقدرة الله كأهل الجنة على أنه يشكل من قولهم أن يقال: إذا خلق الله الاعتبار الاختياري بزعمكم ولم يخلق الفعل فهل يثاب العبد على ذلك الاعتبار ويعاقب أم لا؟ الأول باطل لما روي مرفوعاً: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها)) الخبر، ومفهوم قوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[الشورى:30] {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف:14] فتعين الثاني ووجب أن لا مؤاخذة به وبذلك بطل الكسب.(1/103)
فإن قيل: إنه لا يقع الاعتبار إلا ويخلق الفعل لزم أن خلق الاعتبار موجب لخلق الفعل، وأنتم تقولون: لا يجب على الله واجب أو عدم الاختيار في أفعاله، وذلك كفر ويرد عليهم إشكال أن علم الله وإرادته أزلاً بوقوع الفعل يستلزمان أن العبد يفعل الفعل لا باختياره البتة؛ إذ العلم أن يكون صفة بها الانكشاف إلا أن الإرادة صفة بها التخصيص على وفق العلم ففعل العبد واجب الوجود أو ممتنع الحصول لغيره وهذا ينافي الاختيار.
وأجيب بأن الوجوب باختيار العبد محقق لاختياره لا مناف له.
وأجيب عنه: إذا كان العلم سابقاً محققاً لاختياره وجب الوجود أو عدمه على مقتضى جريه وذلك المطلوب، أو سبباً للمعلوم فكذلك لئلا ينكشف خلافه ولا يلزم في أفعال الله لوجود المخصص عقلاً وشرعاً؛ لأن الكلام في لازم الوقوع وواجب الوجود موجب لنفي الاختيار لئلا ينكشف خلاف العلم أو يلزم ثبوت المعلوم في الأزل فوضح لزوم الجبر وعدم الاختيار كما صرح بذلك خرِّيتهم ابن الخطيب في (مفاتيح الغيب) والبيجوري على (الجوهرة).
قال أبو المعالي في مقدمات كتاب (البرهان): إن الكسب تمويه؛ لأن المكلف هو المتمكن وأن التكليف لا يكون إلا بالممكن وأن تكليف ما لا يطاق باطل، وأبو إسحاق لا يوافق الأشاعرة على هذا وقد تصلف السيد محمد بن إبراهيم في (إيثار الحق) في تنزيه الأشاعرة وأهل الحديث حتى تكلف لهم مذاهب لم ينصوا عليها كما روي عن ابن تيمية أنه أثبت للعبد قدرة مؤثرة في الفعل، وجوابه على الذمي منادي بكذب هذه الرواية، فلهذا تحرينا نقل كلامهم من مصنفاتهم لئلا ننسب إلى التمويه، كما أن السيد محمد ينقل عن المعتزلة من كتب خصومهم ما لم يقولوا به وكذلك بعض أصحابنا فإنهم نقلوا عنهم من غير تثبت فافهم، وقد استوفى البحث إصداراً وإيراداً في (التحفة العسجدية) للمولى أمير المؤمنين الهادي لدين الله الحسن بن يحيى بن علي القاسمي رضوان الله عليه فليراجع.(1/104)
نعم وقد تقدم الجواب على من زعم أن الصحابة كانت لا تعرف دقائق الكلام ولعل يأتي لها مزيد بيان.
وهذا حصر بعض مشائخ أهل السنة كما حصرهم الصابوني في رسالته وهم: سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وشعبة، وابن المبارك، والأحوص، وشريك، ووكيع، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن معين، وابن حنبل، وابن راهويه، والشافعي، وسعيد بن جبير، والزهري، والشعبي، والتيمي، ومن بعدهم: كالليث، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ويونس بن عبيد، وأيوب، وابن عوف، ونظرائهم: يزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وجرير بن عبد الحميد، ومن بعدهم: محمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وابن خزيمة، وأبو حاتم وابنه، ومحمد بن مسلم، ومحمد بن أسلم الطوسي، وعثمان بن سعيد الدارمي...إلخ.
قلت: الغالب على الرواية عنهم الغلط فإنه قد روي عنهم العدل والتشيع كالشافعي وابن جبير تلميذ ابن عباس وبعضهم معدود من رجال الزيدية كالسفيانين ويونس بن عبيد وعبد الرزاق والشعبي تشيعه غير خاف على من له خبرة بالسير والأخبار وكذلك شريك وغيرهم.
وقوله: إنهم لا يختلفون في الجمل التي ذكرها عنهم في رسالته، فغلط محض، بل لم يثبت عن أكثرهم إلا العدل والتشيع والقول بوجوب الخروج على الظلمة، بل محمد بن إسماعيل البخاري خالف الذهلي وغيره في اللفظ بالقرآن حتى جرى عليه بسبب ذلك ما هو مذكور في التواريخ وكذا ذكر الذهبي في النبلاء أن أبا زرعة وأبا حاتم تركا حديثه عندما كتب إليهما الذهلي أن البخاري أظهر بنيسابور عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق.
هذا وقد استحسنا نقل تعريفهم للأحوال والاعتبار السابقين التي أثبتوها للعبد.
قال في (فيض الرحمن): المفهومات أربعة:
الأول: الموجودات وهي التي تكون في الخارج.
الثاني: المعدودات الصرفة وهي التي ليس لها ثبوت أصلاً.(1/105)