وأما قوله: إن الله حاكي .. إلى آخر كلامه، فيلزمه أنه حاكي في الأصوليات أيضاً؛ لأن الشرع يُوافق مع العقل على ذلك، بل كل ما وافق العقل والشرع من المسائل فيلزم منها أن الله حاكي، أما نحن فنقول: إن الله سبحانه خلق العقل حجة علينا نميز به الحسن والقبيح وفطرنا على معرفة وجوب شكره بواسطة النظر وبيّن لنا على لسان أنبيائه كيفية الشكر تقريراً للواجب العقلي وبياناً للكيفية؛ لأن الشرع نفسه لا يوجب، بل أصل الوجوب من جهة الشارع كله أما ما كان من جهة العقل فقد تقدم الدليل على وجوبه وأن الله خلقه على هذه الفطرة وأنتم توافقونا أيضاً على أن شكر المنعم واجب، وأما ما كان طريقه الشرع فمسألته اتفاقية.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقولهم: إنه يقبح من الله أن يتفضل على أحد من خلقه بغفران ذنب واحد وأنه لا يغفر إلا ما وجب غفرانه وجوباً يقبح خلافه حتى لو زادت سيئات المسلم مثقال حبة من خردل قبح من الله مسامحته في ذلك ووجب على الله تخليده في النيران...إلخ.
[المؤلف] أقول: قد حكى الإمام القاسم عليه السلام في (الأساس) ما لفظه: ويحسن العفو عن العاصي ولا يجب على الأصح إن علم ارتداعه كالتائب اتفاقاً، ولا يحسن العفو عنه عقلاً إن علم عدم ارتداعه وفاقاً للبلخي وخلافاً للبصرية. ا ه‍.
قلت: واعلم أن مستند الجميع أمران:
أحدهما: أن العفو عن العاصي إذا كان يستلزم الإغراء على المعاصي قبح والله تعالى متنزه عن فعل ما يستلزم القبح.
الثاني: كون العفو خلفاً للوعيد وذلك لا يجوز على الله، قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ...}[ق:29] الآية، وغيرها، وهذا في حق من أتى بكبيرة، أما الصغائر فلا، وإنما نقول عليهم ما لم يقولوه.(1/96)


وأما قوله: إنه لا يغفر إلا ما وجب عليه غفرانه فإنما أراد بذلك تهجين كلام العدلية إما جهلاً لمعنى لفظ الوجوب عندهم أو تعسفاً، أما معنى الوجوب عندهم فقد بينه المنصور بالله عليه السلام في (الشافي) بما معناه: إن معنى الإيجاب على الله تعالى الإخبار بواجب حكمته، بمعنى أن الحكمة تقتضي ذلك لا الإيجاب الذي هو الإلزام؛ لأنه متفرع على علو منزلة الموجب على الموجب عليه. ا ه‍.
وقد ورد الشرع بذلك، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33] وما روى معاذ عن النبي صلى الله عليه وآله: ((إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، يا معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ألا يعذبهم)). أخرجه الشيخان في صحيحيهما، وقد ورد في الحديث: ((إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراماً)) أخرجه مسلم في صحيحه، لكن ابن تيمية مسخ معنى الحديث فقال في شرحه ما معناه: إنه لا يسمى فعله تعالى ظلماً؛ لأنه قبيح والله يتعالى عنه ولو فعل ما فعل؛ لأنه تصرف في ملكه، وغفل أنه قد حرم الظلم على نفسه وقال: {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29] فلو لم يكن تعالى قادراً عليه ويتناول أفعاله لما سماه ظلماً وحرمه على نفسه.
[ابن الوزير] قال: لأن الفعل ليس بظلم وإنما هو من جهة الفاعل بمعنى تصور كونه ظلماً؛ لأن الفاعل الله تعالى وذلك رد إلى أنه لا يكون الظلم إلا الاعتبار الذي بمعنى الكسب وتعجيز الله عن أن يعتبر فعله وليس أنه معتبر باعتبار حادث، فتأمل لدق المأخذ.(1/97)


[المؤلف] والجواب: إنه قد خاطب العرب بما تعرف وقد منعتم من تأويل القرآن وأوجبتم علينا الأخذ بالظاهر وإجراء الآيات على حقائقها والعرب لا تعرف غير ما تدين به العدلية في جميع مسائل الكلام من أن الفاعل العبد، وأن في الأفعال ما هو الحسن وما هو القبيح، وأن الظلم أخذك الغير بما لم يستحق .. إلى غير ذلك، ثم يقال: هل الظلم المحرم على العباد هو غير المحرم على الله أو لا؟ الأول باطل؛ لأنه لم يبين، والمقام مقام بيان؛ فتعين الثاني، وإلا لزم العبث في كلام الحكيم، بل إنكار الحكمة في أفعاله ومنكرها منكر للضرورة.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : وقولهم: إن من لم يعرف الله تعالى بأحد الأدلة التي حرروها فهو جاهل بالله كافر وهذا يستلزم تكفير السواد الأعظم من المسلمين من الأولين والآخرين والأنصار والمهاجرين...الخ.
[المؤلف] أقول: هذا آخر ما سرده من التهجين وقصدنا رد رواية الخطأ عن شيوخنا وقد قدمنا بعض الأدلة على وجوب النظر.
أما قوله: يستلزم تكفير السواد...الخ إما مع القول بأن المولود يولد على الفطرة فلا يلزم ذلك البتة، وأما الصحابة فنقول: لا يخلو إما أن يكون إسلامهم إلهاماً أو عن نظر، الأول باطل وإلا لما افتقر إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وآله ودعاه لهم الفينة بعد الفينة وإتيانهم بالمعجزات فتعين الثاني، ثم لا يخلو إما أن تكون الأدلة الكلامية المحررة عقلية وقرآنية أم لا، إن كان الأول فهو المطلوب، أو الثانية فكتبهم على ظهر البسيطة منادية بكذب من ناكرهم في ذلك، ثم إن العقلي الموالف والمخالف لا يستقيم له الاستدلال والمناظرة وتحرير المقدمات والنتائج العلمية والعملية بدون النظر فتعين وجوبه وأن المخل به على جرف هار واتبع هواه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
أما من قال: إن الدليل كاف من السمع وأن العقل غير حجة.(1/98)


فالجواب عليه: أن معرفة الحق من السمع متوقف على النظر في صحته وصحة النظر متوقفة على السمع فلزم الدور وهو باطل مع أنا لا نمنع حصول المعرفة من دون نظر ففضل الله واسع ولا يعجزه شيء فقد يلهم بعض عباده المعرفة وما ذلك على الله بعزيز، وتفصيل البحث في مواضعه وسيأتي مزيد بيان.

[أفعال العباد والكسب والاختيار]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : الوهم الثالث عشر: أراد المعترض أن يحتج على أن الأشعرية وأهل الحديث كفار تصريح لإنكارهم ما هو معلوم ضرورة من الدين ذكر أشياء منها زعم أنهم ينكرون أن لنا أفعالاً وتصرفات.
والجواب: إن هذا مجرد دعوى عليهم من غير بينة بل بهت لهم ومصادمة لنصوصهم...إلى أن قال: الفرقة الأولى منهم هم الجبرية الخلص وهم الذين يقولون: لا تأثير لقدرة العبد في الفعل ولا في صفة من صفاته بل الله يخلق الفعل بقدرته ويخلق للعبد قدرة متعلقة بفعله مقارنة في حدوثها لحدوثها غير متقدمة عليه ولا مؤثرة فيه البتة، وهذا قول الأشعري وأتباعه وجماهير المحققين من المتأخرين على خلاف هذا. ا ه‍.
واحتج لهم بكلام الرازي أن لنا أفعالاً أوجبها الداعي ولكن بعد إقراره بما سمعت من حكايته عنهم فلا محيص من الجبر وإن تلون أي تلون، هذا وذكر الباقلاني وجعله فرقة ثانية وقال: إنهم أهل الكسب.
قال: ومعنى الكسب عندهم أن قدرة الله مستقلة بإيجاد ذوات العباد التي لا توصف بحسن ولا قبح ولا يستحق عليها ثواب ولا عقاب، وقدرة العبد مستقلة بصفات تلك الأفعال التي توجب وصفها بالحسن والقبيح ويستحق عليها الثواب والعقاب، مثال ذلك أن أصل الحركة عندهم من الله وأما كون تلك الحركة متصفة بصفة مخصوصة مثل كونها صلاة أو زنا فذلك أثر قدرة العبد. ا ه‍ـ.(1/99)


[المؤلف] قلت: وهذان القولان لم يتخلصا عن الجبر والكسب المذكور إنما هو أمر اعتباري وإن موّهوا عليه قالوا: اعتبره العبد في فعل الرب وهو المسمى عندهم بالكسب وزعموا أن ذلك هو الاختيار كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى مع اعترافهم باستقلال قدرة الله بالفعل، وليت شعري كيف جوابهم إذا سها العبد عن الاعتبار، هل تمتنع القدرة الإلهية أو يؤاخذ بصفة العقل وإن لم يعتبر؟ ثم الاعتبار مطلق العصيان أو كونها كبيرة أو صغيرة؟
وقد ذكر الفرقة الثالثة فقال: قالوا: قدرة العبد تؤثر بمعنى يعين من أعان وهو يستلزم مقدور لقادرين.
وذكر الفرقة الرابعة وهم الجويني قالوا: إن قدرة العبد مؤثرة في ذات فعله وصفاتها كلها صفة الوجود وصفة الحسن والقبح...إلخ.
قلت: الجويني إمام مجتهد خرج عن أسر التقليد وقد لهج محمد بن إبراهيم بعده من السنة وليس منهم.
قال في (شعب الإيمان) وحواشيها:
فصل في الاختيار والكسب ذهب الماتريدية أن الله تعالى إذا خلق في ذهن العبد داعيه فعل اختياري أي صورة أم بطلبه النفس وتصوره ملائما ينبعث عنه شوقها أي ميلها إليه ويخلق الله تعالى ما يشاء فيه حالة اختيارية تمكن من قصد الفعل والترك على البدل تسمى الإرادة الكلية كما يشير إليه قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر:37] {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النساء:39] وصرفها بذلك التمكين إلى جانب معين هو الإرادة الجزئية، فإن كان هو قصد الحركة عند الاستطاعة أي سلامة الأسباب والآلات يخلق الله تعالى على جاري عادته في العبد الفعل مع القدرة التي يكون بها موصوفاً بما يميزه على غيره ككونه قياماً أو قعوداً طاعة أو معصية إلى غير ذلك مما لا توصف به أفعاله تعالى كما يرشد إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد:11] {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225](1/100)

20 / 46
ع
En
A+
A-