[المؤلف] قلت: هذا كلام لجمهور المعتزلة لكنهم لم يصرحوا بالحدوث إلا أنه يلزم من قولهم مقارنة للمراد.
فأما قولهم: غير داخل في العالم، فيمكن أن يريدوا بذلك الإرادة التي بمعنى العلم، فقد نص بعضهم على أن إرادته تعالى هي علمه، وقولهم: ولا خارج منه بمعنى المقدور الذي هو منه، هذا وقد استدلوا على أن المتقدم عزم وهو مستحيل على الله، وزعم الأشعرية والكلابية أنها قديمة، وفي المسألة أبحاث ليس هذا موضع إيرادها؛ لأنه لم يستدل وإنما أخرجها مخرج التهجين.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وإن أول الواجبات النظر في الله، وإن النظر فيه لا يتم إلا بالشك فيه، فوجب الشك في الله، بل كان أول الواجبات؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه بحيث يحصل الثواب على الشك في الله والعقاب على تركه ويستمر وجوب الشك في مهلة النظر ويقبح فيها تعظيم الله سبحانه؛ لأنه عندهم في تلك الحال لا يؤمن أن لا يستحق التعظيم فيحرم فيها لذلك الصلاة وسائر العبادات وتحل جميع المحرمات بالشرعيات. ا ه‍.
[المؤلف] قلت: اعلم رحمك الله أن الإمام هنا لم يتحاش عن البهت مع علمه بقبح ذلك وإن مثل أولي النهى لا يقول بمثل هذا القول؛ لعدم تصور وقوعه من عاقل، دع عنك نحارير الأئمة وساداتها، وميادين الحكم وبحور العلم وأهلتها، فنقول: أما وجوب النظر من حيث هو فيدل عليه المعقول والمنقول.
أما الأول فهو أنه ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي، فإما أن يجوز تقليد الكل فيلزمنا تقليد الكفار، وإما أنه يجب تقليد البعض دون البعض فيلزم أن يصير الرجل مكلفاً بتقليد قوم دون آخرين من دون حجة، وإما أن لا يجوز التقليد أصلاً وهو المطلوب، فإذا بطل التقليد لم يبق طريق إلى معرفة الله إلا طريقة النظر إلا أن يقولوا: إن المعرفة غير واجبة.(1/91)


والمنقول فقد أمر الله سبحانه عباده بالنظر فقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}[محمد:24] {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}[الغاشية:17]، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}[فصلت:53] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}[الرعد:41] {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[يونس:101] {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الأعراف:185] وما أدى معنى ذلك، كما ذكر التفكر في معرض المدح قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ}[ الزمر:21] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}[آل عمران:13] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى}[طه:54] مع ذم المتغافل عن النظر، قال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}[الحج:46] ومثله ما ورد في ذم التقليد فقال حاكياً عن الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]، وقال: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[لقمان:21] وقال: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[الشعراء:74] وقال: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}[الفرقان:42] وقال عن والد إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لاََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46]، فكل هذا يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد فمن دعا إلى النظر والاستدلال كان موافقاً للقرآن وسائر الكتب المنزلة وجميع الأنبياء المرسلة.
وأما قوله: إنه يلزم في النظر الشك فمردود من وجهين:
الأول: أنا لم نوجب النظر على العارف؛ لأن تحصيل الحاصل محال.(1/92)


الثاني: أنه ليس الأمر بالنظر أمر بالشك ولا يستلزمه.
أما الأول فلأن الأمر بالكيفية ليس هو الأمر بالمكيف فضلاً عن غيره، وأما لا يستلزمه فلأنه ليس من مقدماته وغير ممتنع بدونه.
إذا تأملت ذلك عرفت أنه بهتهم بهذه الفاقرة من غير بيان ولا مأخذ ولو دق مسلكه إلا مجرد الكذب ورمي الغافل بمحض الباطل، هذا وقد تمسك القائل بعدم وجوب النظر بشبه، منها:
[الأولى]: أن النظر لا يفيد العلم.
الثانية: أن النظر المفيد للعلم غير مقدور لنا.
الثالثة: أنه لا يجوز الإقدام عليه؛ لأنا لا نأمن عاقبته.
الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر به.
الخامسة: أنه بدعة.
وقد احتجوا على هذه الشبه [بحجج] تركنا نقلها لأنها تظهر في تأمل الجواب الجملي فنقول:
الجواب عن هذه الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر لا يفيد العلم فهي فاسدة؛ لأن الشبه التي ذكروها ليست ضرورية بل نظرية فهم أبطلوا كل النظر ببعض أنواعه وهو متناقض.
وأما الشبه في أن النظر غير مقدور فهي فاسدة؛ لأنهم مجازون في استخراج تلك الشبه فبطل قولهم أنها ليست اختيارية.
وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن التعويل عليه قبيح فهي متناقضة أيضاً؛ لأنه يلزمهم أن يكون إيرادهم لهذه الشبه قبيحاً.
وأما الشبه في أن النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر به فذلك باطل؛ لأنا قد بينا أن الأنبياء بأسرهم ما جاؤا إلا بالأمر بالنظر والاستدلال.
وأما قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً}[الزخرف:58] فهو محمول على الجدل بالباطل لتأتلف الآيات هذه، وقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].
وأما قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}[الأنعام:68] فالجواب: إن الخوض هنا هو التعنت واللجاج لا النظر.
وأما قوله صلى الله عليه وآله: ((تفكروا في الخلق)) فذاك إرشاد لعباده طريق معرفة الخالق وهو المطلوب مع أن فيه الأمر بالتفكر.(1/93)


وأما قولكم: أنه صلى الله عليه وآله أمرنا بدين العجائز فإن صح فليس المراد منها إلا تفويض الأمور كلها إلى الله سبحانه والاعتماد في كل الأمور عليه.
وأما قولكم: أنه صلى الله عليه وآله قال: ((إذا ذكر القدر فامسكوا)). فضعيف؛ لأن النهي الجزئي لا يفيد النهي الكلي ولأنه قد علم الله أنكم تقولون إنه قدر عليكم المعاصي فنهاكم عن قول القدرية.
وأما الإجماع فنقول: إن عنيتم أن الصحابة لم يستعملوا ألفاظ المتكلمين فمسلم لكنه لا يلزم منه القدح في الكلام، كما أنهم لم يستعملوا ألفاظ الفقهاء ولا ألفاظ المحدثين واصطلاحاتهم في طرق الأخبار، وإن عنيتم أنهم ما عرفوا الله بالدليل فبئس ما قلتم أو عرفوه إلهاماً فَلِمَ تكلف النبي صلى الله عليه وآله دُعاهم، والله تعالى يقول عنه: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص:86] وأما تشديد السلف على الكلام فإن صح فعلى أهل البدعة.

[التحسين والتقبيح العقليان]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقولهم: إن جميع الواجبات وجبت لأنفسها وجميع المحرمات كذلك من غير إيجاب موجب ولا تحريم محرم وأن الله غير مختار في التحليل والتحريم وإنما هو حاكي فقط. انتهى.
[المؤلف] الجواب: أقول: لم أطلع على مأخذ هذا الإلزام إلا أن يكون من قول أبي القاسم البلخي والإمامية وبعض الفقهاء أن القبيح يقبح لعينه فيلزم أن الحسن يحسن لنفسه، وروى أبو مضر عن أهل البيت" أنهم يقولون: إن الشرعيات من العبادات ونحوها وجبت عقلاً كالعقليات سواء، والسمع إنما كان شرطاً للأداء لا للوجوب، قال الشرفي: وهو معنى كونها وجبت شكراً. انتهى.
قلت: واعلم أن قولنا بوجوب شكر المنعم عقلاً وأن الأعمال من الإيمان الذي هو معنى الشكر هو معنى قولنا وجبت التكاليف الشرعية عقلاً -أعني جملتها- وامتثال أوامر الشارع والشرع قرر ما عند العقل وبين كيفية مراد الله تعالى من شكره وذلك ظاهر لخلقه العباد على فطرة الإسلام.(1/94)


بيانه أن نقول: من لطم صبياً فتلك اللطمة تدل بنفسها على التنزيل على وجود البارئ المختار ووجوب الواجبات وعلى دار الجزاء ووجود النبي، أما وجود الصانع المختار فلأن الصبي إذا لطم يتألم ويقول: من الذي ضربني وما ذاك إلا أن شهادة فطرته تدل على أن اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل فعلها ولأجل مختار أدخلها في الوجود فلما شهدت بذلك الفطرة الأصلية بافتقار ذلك الحادث مع قلته وحقارته إلى الفاعل فبأن تشهد بافتقار جميع حوادث العالم إلى الفاعل كان أولى.
وأما وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول: لِمَ ضربني ذلك الضارب؟ وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ومندرجة تحت التكليف وأن الإنسان لم يخلق مفوضاً ولا سدىً.
وأما وجوب دار الجزاء فهو أن ذلك الصبي يطلب الجزاء على تلك اللطمة وما دام يمكنه طلب ذلك الجزاء فإنه لا يتركه، فلما شهدت الفطرة الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع الأعمال كان أولى.
وأما على وجوب النبوة فلأن المكلفين يحتاجون إلى مبين يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي فلا معنى للنبي إلا الإنسان الذي يقدر هذه الأمور ويبين لهم هذه الأحكام فثبت أن فطرة العقل حاكمة بوجوب ما ذكرنا وجوباً لا ينفك عن معرفته عاقل، فافهم.(1/95)

19 / 46
ع
En
A+
A-