المتيسر على ما في الجزء الثاني من (الروض الباسم)
[مدخل]
ابتدأ بالرد على المترسل في وصفه المعتزلة بكمال المعرفة، ثم تهجين العوض على علم الحقائق وممارسة علم الكلام زاعماً أن الصحابة لم يقع منهم شيء من ذلك، ولقد أهمني هذا [الدعاء] المموه إلى الجهل القبيح، وأي قبح أعظم من الإخلال بمعرفة الله سبحانه مع أن الشيطان ملازم لهذا الإنسان غير منفك عنه البتة، فكم أغوى من الأعوام، ووسوس للرؤساء والأعلام، ومن زعم أن الصحابة لم يغوصوا [في] دقائقه فقد جهل معاني القرآن، هل ابتدأ القرآن بغير ذكر المخلوقات الدالة على قديم الذات وقياس الأخرى على الأولى وخطاب العقلاء بقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2]، وعدد ما يستحق من الصفات، ثم عقبها بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11]، {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، ثم بين ذلك الرسول صلى الله عليه وآله.(1/86)
ولما اتسع نطاق العلوم وطلب العجم والعرب منطوقه والمفهوم، أبرز أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام لهم أساليب المجادلة وتحرير الدليلين من العقل والنقل في أثناء خطبه في المدينة والعراق، وقام بضده الطاغية بالشام، فقرر الجبر من غير احتشام، ونفث بما ألقاه على لسانه إبليس اللعين، فتلقفها عنه الجهلة ورد عليه رؤساء من الأنصار وغيرهم من المسلمين يعرف ذلك من طالع التواريخ وعلم منشأ فتنة الإسلام، ثم قيض إبليس بمهواة العراق آل أبي موسى الأشعري فمنهم من حكم بغير ما أنزل الله سبحانه، ومنهم الشاهد على حجر الخير، ومنهم القائم مع الأموية، ومنهم محيي المهاوي والفتن -أعني بذلك خليفة إبليس المدعو بأبي الحسن- المجوز لتكليف ما لا يطاق، والمموه على الأوهام سفهاء الشام والعراق، فلو لم يكن الغوص على الحقائق مطلوباً لكان بعثة الرسل كافية لتبيين الفقه لا غير، هل معظم ما في القرآن إلا مسائل العدل والتوحيد.
فإن قلت: أسلوب العلماء في كتب الكلام غير أسلوب القرآن.
قلت: وأنى للبشر أن يشابه كلامهم كلام عظيم القوى والقدر.
ثانياً: خاطب الله أهل اللسان بما يعقلون فلو خاطبهم بهذي التحاوير لأهل الكلام لتعسرت على بعضهم.
فإن قلت: هل عرفوا ما حرر في كتب الكلام؟
قلت: علماؤهم معروفون بالغوص على الحقائق، والقرآن قد شمل جميع الدقائق، قال سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، وعرفوه بأدنى تعريف لمعرفتهم بلغتهم وإنما تعسر علينا وعلى العجم لما تغير من اللسان فارتطمنا في اللحن أي ارتطام.
وهنا سؤال لطيف وهو: إن الله سبحانه أرسل النبي صلى الله عليه وآله إلى من شمله التكليف ومنهم من لا يستقر إيمانه بالبديهة أو بأدنى عارض إما لجمود فطنه أو لكثرة توارد الشكوك عليه إلا بمعرفة علم الكلام.(1/87)
فإن قلتم: لا يجب عليه ذلك؛ إذ ليس في القرآن، لزم منه عدم وجوب استقرار الإيمان أو تكليف ما لا يطاق ورد آية من القرآن، قال تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل:89]، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3]، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[إبراهيم:10] أو الثاني وهو المطلوب.
وكم قرر الإمام ـ رحمه الله ـ أن أهل كل فن حجة على غيرهم فلم خرج عما قرر في علم الكلام مع تسليمه لقصور أهل نحلته عن ذلك، فإذا أراد مكابرة المعتزلة أتى ب(ابن الخطيب) و(الغزالي) و(النووي) وغيرهم من الأشاعرة، وخبأ أصحابه في زوايا الجرح للمؤمنين وتعديل الفجرة من الموارق والنواصب والقاسطين.
[العلم والهداية]
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله تعالى ـ: وإن كانت العقائد التي لا تدرك إلا بالممارسة وهي قول شيخكم: إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمون. ا ه.
[المؤلف] قلت: هذه الكلمة رويت عن أبي هاشم ولم يقل بها أحد من متكلمي الزيدية والمعتزلة فكيف أطلق الرواية عن الشيوخ، فإن أراد بذلك تعظيم أبي هاشم نقض أصله، وإن أراد الظاهر وذلك نسبة الجمع من الإضافة إلى ضمير الجمع فغلط فاحش يعرفه من هو أقل معرفة منه.
هذا ولم يقصد أبو هاشم إلا الإخبار عن رسوخ يقينه وتنزيه الله عن تكليفنا بغير الحق فما عرفناه من صفاته سبحانه من دلالة الدليل القطعي فهو على ما هو عليه للتكليف به والله لا يكلف بغير الحق ولكن الجاهل لمقاصد العلماء يخرج كلامهم مخرج البشاعة ومن جهل شيئاً عاداه.
[ابن الوزير] قال: وقولهم: إن الله تعالى لا يقدر على هداية أحد من المذنبين.(1/88)
[المؤلف] قلت: الأولى أن ينسب هذا الكلام إلى من يقول: إن علم الله سابق سايق وذلك أنه إذا علم أن إنساناً مثلاً كافر لم يتأت منه هدايته لئلا ينكشف علمه جهلاً، ومن قال: إنه خلق بعضهم للنار مكتوب عليهم الشقاء، وهم أهل نحلتك، أما أصحابنا فقد تبرءوا من هذا وقالوا: لو أراد الله الهداية القسرية لفعل سبحانه لكنه خلاهم مختارين مجازين بأعمالهم ومثابين على حسناتهم فانظر لقولهم عند قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، وقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}[فصلت:17] وغير ذلك من نصوصهم.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقولهم: إن الله لم يخلق شيئاً على الحقيقة قط لأن الأشياء ثابتة فيما لم يزل وَتَذْويت الذات محال وإنما الذي هو فعل الله اكتساب الذوات الثابتة في القدم صفة الوجود وليس لله عندهم فعل إلا صفة الوجود لكن صفة الوجود عندهم وسائر الصفات ليست بشيء فحصل من هذا أن الله تعالى لم يخلق شيئاً قط وإنما يقال: إنه خالق كل شيء مجازاً. انتهى.
[المؤلف] قلت: هذا الكلام ليس لأصحابنا وشيوخنا وإنما هو يلزم الأمورية وهذا ظاهر كلام ابن الراوندي، مع أن هذا عين كلام أهل السنة من أن القدرة موجبة للمقدور لأن الله سبحانه قادر في الأزل اتفاقاً فلزم مقارنة القدرة للمقدور في الأزل.
هذا واعلم أنهم قد حكوا اتفاق أهل الإسلام على حدوث العالم جميعه، والذوات منه، فلا يلزمهم قدمها بل قدرة الله شاملة للذوات وغيرها من المتعلقات، لأنهم قد صرحوا بحدوث الجسم واكتساب الوجود عرض لا كما قال: إن صفة الوجود ليست بشيء، وفي هذه المسألة غموض من القول لتعلق القدرة بالمقدور مع وجود كون الصيغة لا تقتضي إطلاق الخلق إلا على من قد خلق فيقال قولنا خالق هو من يصح منه الخلق.
قال الإمام الناصر الحسن بن علي بن داود المؤيدي عليه السلام : ليس مرادهم ثبوتها إلا تصورها للعالم بها ورد.(1/89)
أما علم الله سبحانه فليس يتصور وردانها عبارة عما يجب له لا بمعنى التخيل والتمثيل في الذهن، وعلى هذا فالخلاف لفظي إن شاء الله.
أما أصحابنا وأبو هاشم فقد صرحوا بأنه خالق حقيقة، وقال الجمهور: إنه مجاز في حقه تعالى لعدم حصول معناه المشتق وهو الخلق ولافتقاره إلى القرينة.
أقول: فهذا ليس موضع الرد ولا يخفى أنه جمع مسألتين متباينتين فوقع التخليط؛ لأن قدم الذوات عند القائل به متعلق بالقدرة والوجود إبرازها المقدور خارجاً، وهل إطلاق لفظة خالق بمعنى المجاز أو الحقيقة مسألة أخرى أو إحداهما فرع للأخرى.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقولهم: إن الله غير قادر على إعدام الألوان كلها، وكذلك الطعوم فلا يقدر على قلب الأسود أغبر لأنه إنما يزيل الصفة بواسطة طرو ضدها عليه.
[المؤلف] والجواب: أنها مسألة خلافية، فذهبت البصرية إلى أن الألوان باقية، وقال البلخي: لا للأول استمراره ما لم يطرو الضد، وقالوا: كلما ينتفي من غير ضد أو ما يجري مجراه كالصوت فليس باقياً، والعكس باق.
قال أبو علي: الباقي ما يستمر أوقاتاً وما لا فلا، كالصوت، ومن هنا يعرف أن مقصدهم بالبقاء الاستمرار حيناً ما، لا مطلقا.
فأما قوله: بواسطة طرو الضد، فلو قيل: إنا مجمعون على أن ضد الوجود هو العدم والعكس للزم القول إنه إنما يزيل الصفة بواسطة طروء الضد أولى وهو المطلوب، مع أنهم لم ينصوا إلا عليه فقد تتبعنا أقوالهم فلم نجد فيها ما رماهم به ولكن كما قيل:
ولكن عين السخط تبدي المساويا
ومن تطلب عثرات العلماء وجد لعدم العصمة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}[النساء:82].
[ابن الوزير] قال: وقولهم: إن الله تعالى يريد بإرادة محدثة موجودة على حده وجود عرض مستقل بنفسه غير حال في ذاته تعالى ولا في غيره ولا داخل في العالم ولا خارج منه. انتهى.(1/90)