الوهم الثاني: وهم أنه يمكنه تخصيص المحدثين بالقدح عليهم في حديثهم بالحديث الذي فيه: ((يؤتى بقوم يوم القيامة فيذهب بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي)) ولقوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}[التوبة:101].
قال: دلت الأدلة على أن في من يعدونه صحابياً من هو كافر مجروح. انتهى.
وهذا يصلح من شُبَه الزنادقة القادحة على أهل الإسلام لا من شُبَه الشيعة القادحة على أهل الحديث ولكن المعترض لا يدري ما يخرج من رأسه.
[المؤلف] والجواب: إن الإجماع منعقد على الاعتبار بالظاهر دون الباطن ومن نجم نفاقه وظهر كفره يترك حديثه ومن ظهر إسلامه وأمانته وصدقه قبل...الخ.
أقول: قوله: إنها من شُبَه الزنادقة فلا يتأتى حملها كذلك فلهم غيرها، بل من أدلة المتحري، فقد روى الموالف والمخالف أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((ألا وإنه سيكذب عليَّ...)) الخبر، وقال أمير المؤمنين عليه السلام : فإنه قد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته حتى قام خطيباً...الخبر، وهو حجة على المحدثين بلا ريب؛ لأنهم زعموا أن مطلق الصحبة تعديل.
أما قولك: ومن ظهر إسلامه...الخ، فهو مطلوبنا ولسنا نحوم إلا حوله وذلك يشترك فيه الصحابي وغيره وأصحابك يأبون من ذلك كما هو مقرر في مصنفاتهم.
وأما عيبك للمعترض بأنه لا يدري ما يخرج من رأسه فأنت رحمك الله قد ناقضت هنا ما قدمت في حق الصحابة ووافقتنا أنهم مثل غيرهم فما بعد الحق إلا الضلال، والعصمة منتفية عن الجميع، نسأل الله التوفيق.(1/81)
وكلام أئمتنا" متوجه إلى من نجم منه العمل بالمعاصي وخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه الذين أثنى الله عليهم في كتابه العزيز وذلك للأحاديث الواردة في حق من غيّر وبدّل فمن ذلك ما أخرجه ابن عساكر عن أبي بكرة من حديث حدث به معاوية ـ لعنه الله ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ليردنّ عليّ الحوض رجال ممن صحبني ورآني فإذا رفعوا إليّ ورأيتهم اختلجوا دوني، فأقول: رب أصحابي -وفي لفظ: أصيحابي- فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: ((أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
وأخرج في صحيحه عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب منه، ومن شرب منه لم يضمأ بعده أبداً، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم)).
قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن عياش وأنا أحدثهم هذا فقال: هكذا سمعت سهلاً؟ فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه: قال: ((إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي)).(1/82)
وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء مثله وابن عبد البر وأحمد في المسند عن أم سلمة معناه بتعبير يسير، وأخرج أحمد في المسند والطبراني في الكبير وأبو نصر في الإبانة عن ابن عباس مثله، وأخرج أبو داود الطيالسي وأحمد في المسند وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لي: ((ما بال أقوام يزعمون أن رحمي لا ينفع، والذي نفسي بيده إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، ألا وإني فرطكم أيها الناس على الحوض، ألا وسيجيء أقوام يوم القيامة فيقول القائل منهم: أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفت ولكنكم ارتددتم ورجعتم القهقرى)). ا ه.
على أن لقائل أن يقول في معاوية وأصحابه: إنهم لم يدخلوا في الثناء على الصحابة من جهة عموم ولا خصوص، أما كونهم من الأنصار فمعلوم بطلانه ضرورة، وأما كونهم من المهاجرين فكذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله: ((لا هجرة بعد الفتح)).
فإن قيل: إن عمرا والمغيرة من المهاجرين الأولين.
فالجواب عليهم مأخوذ من قصة إسلامهما، لماذا؟ أما عمرو فغلبه الإسلام فأحب أن يبادره خوفاً مما كان قدم، وأما المغيرة فغدرته مشهورة وفجرته غير مستورة، وقد ورد في حق معاوية وعمرا ما لفظه: أخرج الطبراني في الكبير وابن عساكر عن شداد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص جميعاً ففرقوا بينهما فو الله ما اجتمعا إلا على غدر)). ا ه.
وأخرج أحمد في مسنده وأبو يعلى عن أبي برزة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله فسمع صوت غناء فقال: ((انظروا ما هذا)) فصعدت فإذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله، فقال: ((اللهم اركسهما في الفتنة ركساً، اللهم دعهما في النار دعا)). وأخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس بمثل هذا. انتهى.(1/83)
وأخرج الزبير بن بكار في (الوفيات) عن المطرف بن المغيرة بن شعبة قال: دخلت مع أبي على معاوية فكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إليّ ويذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال: يا بني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم، قلت: وما ذاك؟ قال: قلت وقد خلوت به: إنك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً فقد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه، فقال: هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاه؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل أبو بكر، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله فأي عمل يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك لا والله إلا دفنا. ا ه.
قلت: الزبير بن بكار هذا هو قاضي مكة وهو مشهور في المحدثين ومن رواة الصحيح وغير متهم على معاوية لعدالته وفضله مع أن في آل الزبير انحرافاً عن علي عليه السلام وأهل بيته.
قلت: والأثر له شاهد من جواب معاوية على الأنصار واستخفافه برسول الله صلى الله عليه وآله وأفعاله تدل على صحة هذه الرواية من استلحاقه زياد وغيرها من البوائق المخرجة عن الإسلام، وكقتلة حجرا وأصحابه، وإخافة الحرمين، وغير ذلك كثير، وكفاه لعن علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام على المنابر معاندة لرسول الله صلى الله عليه وآله وأمره لعماله بذلك.(1/84)
روي أن المغيرة ـ عامله على الكوفة ـ قال لصعصعة بن صوحان وهو من أصحاب علي عليه السلام لما بلغه أنه يذكر عليا وتفضيله: إياك أن يبلغني عنك أنك تغتاب عثمان، وإياك أن يبلغني أنك تظهر شيئاً من فضل علي فإننا أعلم بذلك منك، ولكن هذا السلطان قد ظهر، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس فنحن ندع شيئاً كثيراً مما أمرنا به ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بداً ندفع هؤلاء القوم عن أنفسنا، فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك في منازلكم سراً، وأما علانية في المسجد فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا. انتهى من الكامل.
هذا ولا يخفى أنه قد ورد أحاديث تدل على خيرية بقية الأمة على الصحابة ومساواتهم في الخيرية، فمن ذلك حديث: ((مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أو آخره)) أخرجه الترمذي وابن حبان وصححه.
وحديث ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ليدركن المسيح أقواماً إنهم لمثلكم أو خيركم ثلاثاً ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها)).
وما روى أحمد والطبراني من حديث أبي جمعة الأنصاري قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك، قال صلى الله عليه وآله: ((قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني)). صححه الحاكم.
وأخرج البخاري في كتاب خلق الأفعال من حديث أبي جمعة أيضاً ولفظه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة فقلنا: يا رسول الله هل من أحد أعظم منا أجراً؟ آمنا بك واتبعناك، قال: ((وما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً)).
وأخرج الترمذي من حديث أبي ثعلبة معناه، ومثله أخرج أبو داود الطيالسي عن عمر مرفوعاً وغير ذلك تركناه اختصاراً.
تم ما استدركت على الجزء الأول والحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين(1/85)