فهذا مقام غضب وإخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وروي أن عماراً سئل عن أبي موسى فقال: لقد سمعت فيه من حذيفة قولاً عظيماً سمعته يقول: صاحب البرنس الأسود ثم كلح كلوحا، علمت منه أن كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط.
وأما أن التخذيل والتخلف لا يكون بغضاً فلا نسلم:
أخاك الذي إن تدعه لملة ...الخ.
أما قام وقعد في منع أهل الكوفة عن إجابة أمير المؤمنين وهو إذ ذاك أميرها من قبله قد شملته البيعة والتزم الإمامة ثم خذل وتربص بإمامه، قل لي لو لم يدفع أمير المؤمنين طلحة والزبير ومن معهما أكانا يتركانه في بقية بلاد الإسلام؟!
تود عدوي ثم تزعم أنني .... صديقك ليس النوك عنك بعازب
وأما المساواة بين خبر الأنصار وخبر أمير المؤمنين فلا سوى؛ لتعلق خبر الأنصار بجميعهم لا الذي أشار إلى معين النص ظاهر مع وجوب بقاء ذلك وإلا لجاز التبري منهم اليوم.
ثانياً: إن النبي صلى الله عليه وآله جعل نفسه منهم يوم الفتح ولم يزل يوصي بهم، أما علي عليه السلام فإنه أراد بذلك اختصاص ذاته بتلك الكرامة التي جعل الله سبحانه له -أعني ذاته- لذكره باسمه ولا سوى المحلى باللام والعلم.
وأما الإجماع على عدم نفاق الخوارج فلا يضر الخبر، والإجماع من مدعياتك الباطلة، ويكفينا قول الرسول صلى الله عليه وآله: ((يمرقون من الإسلام)) فأخبرني ما المروق؟ هل هو غير الخروج؟ وقوله صلى الله عليه وآله: ((إنهم كلاب أهل النار)). وهذا أعظم إهانة من الدرك الأسفل؛ لأنه زيادة على ذلك إن شاء الله.
وأما قولك: إن الروافض تحبه، فقد ورد أنه يهلك فيه رجلان محب مفرط وهم الروافض؛ لأن القصد من الحب هو المودة والاتباع، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31].(1/76)
قلت: واعلم أن هذا التأويل منقول عن ابن حجر تلقفه السيد محمد، ولعل غير ابن حجر قد تقدمه فانظر لهذه الحماقة والتعسف البين كيف قيدوا الخبر بأن الخوارج غير منافقين وجعلوا أنفسهم مشرعين يقيدون الأخبار النبوية بآرائهم فافتعلوا في الصلاة وغيرها من شرائع الحكيم، سبحانك هذا بهتان عظيم.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: وقد أحسن الشعبي ـ رحمه الله ـ بقوله: حدثناهم بغضب أصحاب محمد فاتخذوه ديناً؛ فإنه يحتمل صدور مثل ذلك عند الغضب بأدنى شبهة، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((اللهم إني بشر آسف كما يأسف بنو آدم فمن دعوت عليه أو سببته وليس لذلك بأهل فاجعلها له رحمة وزكاة)) أو كما ورد، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله كيف غيره؟! ..الخ.
[المؤلف] أقول: أما كلام الشعبي فمن مروياتهم وليس حجة علينا مع أن حذيفة ليس كغيره من بقية الصحابة ولا أظن الشعبي قصد بكلامه حذيفة.
وأما خبر النبي صلى الله عليه وآله فكان يجب عليه ذكر سنده؛ لأن المخالف يطعن في صحيحه هذا، بل هذا عين النزاع بينهما لكن الإمام ـ رحمه الله ـ وإن كان واحد زمانه فغيره أبصر بالجدل منه اللهم إلا أن يكون سلب بعض الفهم لتعسفه أو أصابته دعوة جده صلى الله عليه وآله، على أنه لو صح لوجب أن لا يقر على شيء مما أخطأ {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4] فما بال هذه الاعتذارات التي تكاد أن تكيدنا عن الإسلام والقواعد المقررة في الأصول التي أجمع عليها الأعلام.
ثانياً: لا يخلو إما أن نتبعه صلى الله عليه وآله فيما سمعنا منه أم لا، إن كان الأول وجب ألا يقر علي على الخطأ، والثاني لزمنا الخطأ وتعليق آيات وجوب الاتباع فتعين معارضة الخبر للآية مع أنهم لا زالوا يلهجون بهذا الخبر عند كل خبر يقتضي ثلب الفاسقين كمروان الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون بالنص النبوي، فقد قيل: إن ابن حجر جعل بدل هذا اللعن على عدده زكاة.(1/77)
وأما قولك ـ عفا الله عنا وعنك ـ إنما قصدت بذلك وجه الله، فقد سبقك من تلا: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}[طه:84] ما قصد علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه من لعن أبي موسى بعد الفرائض على رؤوس الأشهاد، ولقد روى الحاكم بسنده إلى الناصر الحسن بن علي الأطروش عليه السلام بسنده إلى أبي مريم الحنفي قال: كنت أصلي خلف أبي موسى بالكوفة فلما صلى يوماً الفجر قال: قدم الليلة رجل من خيار أصحاب محمد صلى الله عليه وآله عمار بن ياسر، فمن أحب أن ينطلق معي فليفعل فإن له حقاً، فانطلقنا ودخلنا عليه وسلمنا وسلم أبو موسى فما سمعناه رد، ثم كان أول كلامه أنه قال: يا عبد الله بن قيس أنت المثبط الناس عن علي، وأنت الذي تقول: اقطعوا أوتار قسيكم، ويلك فمن يضرب خراطيم الفتن، وأين قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}[البقرة:193] وأنت القائل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((ستكون فتنة النائم فيها خير من اليقضان))، ويلك يا عبد الله بن قيس أما سمعت رسول الله يقول: ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) وأنا أشهد أنك كذبت على رسول الله، قال: فرأيت أبا موسى يتقرع كما يتقرع الديك وقام وخرج.
وأخرج الطبراني في الكبير عن سويد بن غفلة قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((سيكون في هذه الأمة حكمان ضالان ضال من اتبعهما)) فقلت: يا أبا موسى انظر لا تكون أحدهما قال: فوالله ما مات حتى رأيته أحدهما، قال: وفي رواته مجهول. ا ه.(1/78)
قلت: الحديث صحيح إن له شاهد في كتاب الله قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ...}[المائدة:44] الآيات، وقد حكما بغير ما أنزل الله، وله شاهد من السنة أيضاً في قوله صلى الله عليه وآله: ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، قاض قضى بغير الحق وهو يعلمه فهو في النار، وقاض قضى بالحق وهو لا يعلمه فهو في النار...))الخبر، أو معناه، وقضاهما بغير الحق معلوم، وعلمهما بضلاله كذلك.
وذكر السيوطي في (اللآلئ المصنوعة) عن حكيم بن يحيى قال: كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال له عمار: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يلعنك ليلة الجمل، قال: إنه استغفر لي، قال عمار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار، وقال السيوطي: موضوع، وقال: البلاء من (العطار) لا من (حسين).
قلت: (العطار) وثقه الخطيب في تأريخه. ا هـ نقلاً عمن نقل عنها.
وأقول: الحديث له شاهد وذلك لعن علي بن أبي طالب عليه السلام أبا موسى ولعنتُه من لعنةِ رسول الله صلى الله عليه وآله كما قد ورد، ثم نكثه على أمير المؤمنين عليه السلام وتخذيله الناس عنه وقد قال النبي صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام : ((اللهم عاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)) مع ما ورد من الوعيد للناكثين.
أقول: والذي يظهر أنه لا ينبغي الاعتماد على ما تفرد بروايته؛ لأن عمر بن الخطاب رد خبره في العمرة وخبره في الاستئذان وحده حتى شهد له أبو سعيد الخدري روى ذلك البخاري في صحيحه وكذلك عمار، فأقل الأحوال أنه متهم مع ما له من الطوام في صحيح البخاري.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ عند الكلام على رمي الشافعي بالرؤية: قد رويت الرؤية من الصحابة عن إمام الجميع علي بن أبي طالب عليه السلام ...الخ.
قلت: وذلك أخذا من قوله عليه السلام : ((وكيف أعبد ما لا أرى))...الخبر.(1/79)
نعم وقد زعم الجوبي أنه لا يلزم من الرؤية التجسيم وهو باطل، فإنهم زعموا أنهم يروه كما يروا البدر، فإن أرادوا العلم فقد قال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110] وإن أرادوا بالجارحة فالرؤية شخص المرئي قطعاً، وقد قال تعالى: {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4].
هذا وقد أكثر ـ رحمه الله ـ من تدوين مناقب الأربعة وتنزيههم مما رماهم به المعترض وذلك هو المطلوب، لكن الرجل ما أراد بذلك حبهم ولا إجلالهم إلا حطا للمعترض وأصحابه؛ لأنه شم من المعترض رواية العداوة لهم، وأهل البيت" لم يزروا بالأئمة وإنما استقبحوا منهم ما رواه عنهم أتباعهم فالله يسامح الجميع، ولو علمت أن ذلك لا يضرنا لما شرحت ذلك وأسهبت فيما هنالك وأتعبت نفسك فيما لا يعود عليك نفعه، اللهم إلا أن يكون لك مأرب في مثل ابن حنبل فلعل، أما الشافعي وأبو حنيفة فهما من العدالة والتشيع بمكان لا يرام، وقد ذمهما المحدثون بذلك وليس إلا أصحابك أغاروا على الأئمة الأربعة خصوصاً أبي حنيفة والشافعي وهدموا مبانيهم وجرحوهم وجرحوا مشائخهم فلم لا تلومهم.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة .... ولكن عين السخط تبدي المساويا
فأما ذكر أقوالهم في مصنفات الأئمة وتدريس المعترض طلبته لذلك فليست من باب التعديل، قد حكى الله كلام المشركين في كتابه المبين، وكذلك العلماء يذكرون كلام مخالفهم للرد والاستحسان وعدم الإنكار على من وافق أحدهم ولا سيما الزيدية فإنهم بنو دينهم على الإنصاف واتباع الدليل كيف كان، فما لك من تقميش العرفج أما تتأذى من نتنه وتشتاك من لمسه ويكضك سعال دخانه؟!
[ابن الوزير]: وقد تقدم له قبل هذا البحث قوله.(1/80)