الوجه الثاني: قوله: ألقاه الله على خاطره، فيه من البشاعة ما لا يخفى، هلا قال كما قالت الصحابة: إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني، والله ورسوله منه بريئان.
وأما قوله: إن الفعل لا يدل على الوجوب حتى تدل عليه القرائن، فموضعه غير هذا.
وأما استدلاله على عدم الوجوب بقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا...}[الأحزاب:37] الآية، فقوله في آخرها: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ}[الأحزاب:37] دليل المراد من الآية أن فعله مراد به التشريع ورفع الجناح، والآية تدل لسياقها من أول ذكر ذلك لا على قصة الأمر أو حكاية مجرد الفعل.
وأما استفهامه عن خلع النعال، فذلك محتمل، والاحتمال دعوى معرفة الموجب له حيث لم يسألوه تنبيها لهم إن ذلك موضع سؤال عن الحادثة ولم يخرج استفهامه مخرج الإنكارفيتأتى لك ما ادعيت.
وأما عدم إخبار عمر على موافقته من جهة أسارى بدر فقد تركه وشأنه يوم أحد معتصماً بالجبل يصعد كالراوية ورسول الله في الرعيل وتركه يوم الحديبية ومرجع الموافقة له صلى الله عليه وآله الإيمان القلبي، لكنك أبيت إلا دعوى العصمة لعمر بالإشارة التي هي أدخل من صرائح العبارة على أن ذلك أقل بشاعة مما أنت مورده في حق الطلقاء، فرحم الله عمر.
وأما قولك: إن بعض أفعاله غير واجب إجماعاً. فإن كان لاعتقاد الصارف فهو المراد، وإن كان لغيره فلا نسلم صحة الإجماع. والله أعلم.
وأما قوله تعالى: {فاتبعوه} فهو يدل على الوجوب ما لم تصرفه القرينة عن الوجوب فتأمل.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: فإذا تقرر هذا فاعلم أنه لا يدل دليل على أنه صلى الله عليه وآله طرد الحكم معتقداً لوجوب ذلك عليه وعلى أمته، بل الظاهر خلاف ذلك لوجوه:
الأول: أنه صلى الله عليه وآله لم يوجب ذلك ولا أمر به، والبيان واجب عليه. ا ه.(1/71)
[المؤلف] أقول: لا يخلو إما أن يكون النبي صلى الله عليه وآله دفعه بيده حتى خرج من المدينة أو لا، الأول باطل؛ لعدم الرواية؛ إذ لو كان لنقل، فتعين الثاني وهو المطلوب موافقاً لما قررتم قولاً لا فعلاً.
[ابن الوزير] قال: الثاني: أنه لم يطرده من دار الإسلام بل طرده من جواره فقط وتركه في الطائف مع المسلمين وأمره عليه السلام نافذ في الطائف.
[المؤلف] أقول: وهذا ضعيف لتركه لأهل الذمة في بلاد الإسلام.
[ابن الوزير] قال: الثالث: إنه لم يخبر أهل الطائف أنه يحرم عليهم مجاورة الحكم ويجب عليهم نفيه وهم مسلمون ممتثلون لأوامره وتقريره أحد الحجج.
[المؤلف] أقول: التقرير لا يفيد رجوعه المدينة وتأمينه.
[ابن الوزير] قال: الرابع: إنه لو وجب نفيه لم يكن إلا لأجل فسقه أو كفره ولا ذنب أكبر من الكفر وقد ترك المنافقين واليهود في جواره وأجمعت الأمة على جواز إقرار اليهود بين المسلمين إلا في جزيرة العرب.
[المؤلف] أقول: لا وجه لاختصاصه بالطرد عن المدينة إلا لزيادة خبثه وأذيته للرسول صلى الله عليه وآله، ولا وجه لما اعتذر به لعثمان وأنه رده للرحامة الماسة؛ لأنه أعطاه من بيت المال وهو لغيره، قصد النبي صلى الله عليه وآله إهانته وإحرامه وعثمان أعزه وأعطاه، هب أنه رده وأعطاه من ماله لكنه أعطاه من مال الله ووسع عليه وأمّر ولده حتى عظم في القلوب وطار صيته في الآفاق إلى أن نال هو وولده ما نالوا، ولو استمر في الطائف هان هو وولده لما كان ما كان. والله المستعان.
وما هذه المحاماة عمن قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله ما قال، فمن ذلك ما أخرج الحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي صلى الله عليه وآله فيدعو له، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال: ((هذا الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون)).(1/72)
[ابن الوزير] قوله في أبي موسى: وهذا يدل على براءته من الجرأة على الله التى اجترى المعترض على الله في غيبته بها، فقد كان متعبداً متزهداً...إلى قوله: وروى فيه -يعني في النبلاء- عن الشعبي عن حذيفة أنه تكلم في أبي موسى بكلام يقتضي أنه منافق، ثم قال: في الشعبي تشيع يسير. ا ه.
وقد قال الشعبي: حدثناهم بغضب أصحاب محمد فاتخذوه دينا. وعندي أن هذا لا يصدق فإنه معارض بما هو أصح منه، بل هو معلوم الصحة وذلك أن حذيفة وإن كان صاحب العلم بالمنافقين فبغير شك أنه إنما أخذ العلم بذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وفي أيام الخلفاء الراشدين وكانت حالة المنافقين أحقر من ذلك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله ليولي القضاء منافقاً ويقره على الفتيا وكذلك أصحابه، فهذا أمر معلوم بالضرورة ولا يعارض بحديث مظنون، ومن الأحاديث المظنونة في الثناء على أبي موسى ما روى مالك بن معول وغيره عن أبي يزيد عن أبيه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال في أبي موسى: ((إنه مؤمن منيب)) لما قال له بريدة: أتراه يرائي. ا ه.
[المؤلف] الجواب: أما قوله: عابد متزهد، ففي الخوارج من هو كذلك لكن لا يجاوز التراقي كما أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وآله.
وأما رده لخبر حذيفة بالأمر المعلوم فإن الولاية لا تقتضي العدالة، فقد ولى النبي على الصدقات الوليد بن عقبة وأبا سفيان على نجران حال تألفه له.
وأما الفتيا فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وآله علم به وأقرّه.
وأما القضاء فلعل معه من يحرسه إن صحّ سلمنا، فليس ذلك كله ينفي نجوم النفاق فيما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله.
وأما الخلفاء فقد استعانوا بمن هو أخبث منه من الطلقاء وأهل الردة لميلهم عن بني هاشم.(1/73)
وأما الخبر المروي في الثناء عليه فهو لما اقتضى دوامه مع ورود خبر النفاق للجمع بين الأدلة؛ لأنه ليس لحذيفة ولا لغيره أن يرمي مؤمناً بالنفاق، إذاً باء بها أحدهما فاختر أيهما أهون عليك، وليت شعري لم قلت: إن المظنون هنا لا يعارض المعلوم، مع أنه غير معلوم، وقد اعترضت فيما مضى وفيما سيأتي على المترسل في رده لخبر الرؤية وغيره مما يعارض القرآن والأدلة العقلية الكلامية، هل هذا إلا تتبع الأهواء الردية.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : ولو كان منافقاً لاغتنم الفرصة حين حكمه علي ومال إلى الدنيا وتابع من أعطاه منها ولم ينظر للمسلمين، ولو كان كذلك لما اختار عبد الله بن عمر للخلافة فإن عبد الله من أئمة التقوى ومعادن الزهادة في الدنيا، والمنافق إنما يحب أهل الفسق والجراءة. ا ه.
[المؤلف] أقول: أما اغتنام الفرصة فإن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة قد حال دونها بشرطه عليهما إذا خالفا حكم القرآن فلا حكم لهما.
وأما ميله إلى ابن عمر فليس ذلك اختياراً للمسلمين وإنما كان ابن عمر من المغفلين وأبو موسى كان والياً لأبيه فرجى رجوع ذلك مع معرفته بضعف الرجل وقول أبيه فيه، ولو كان مقصده الدين لما خفي عليه زهد أمير المؤمنين لكن شأنه معروف وإنما الخطب الجسيم والأمر العظيم ذبك عن أعداء الله واستصغارك لأبيك أخي رسول الله صلى الله عليه وآله، فتارة تجعله رابعاً لمن لا يساويه في مشهد من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتارة تعرض ابن عمر في مقابلته مع دعواك العلم والنسب الشريف والتمسك بالسنة، كيف لو حضرت أحد مجالس جدك المصطفى صلى الله عليه وآله حيث يقول: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)) بعد أن قد سبق منك ما قد مهدت، أكنت مستحياً أن يقع عليك بصره الشريف؟ أكنت خائفاً أن تشملك دعوته؟ كلا إن الحياء قد ارتفع من كثيرين بكثرة التجاري.(1/74)
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ : فإن كان صدر من حذيفة شيء من ذلك فلعله تأول في ذلك وغلط فيه وربما أخذ ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وآله في علي -رضي الله عنه: ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)) وأخذ بغضه لعلي من تخلفه عنه، وهذا كله ضعيف، فإن التخلف لا يدل على البغض ولا يستلزم استخراج النفاق...إلى [أن] قال: على أن بغض علي عليه السلام إنما كان علامة النفاق في أول الإسلام، فإن المنافقين كانوا يبغضون من فيه قوة على الحرب لكراهتهم لقوة الإسلام، ولذلك جاء في الحديث أيضاً أن بغض الأنصار علامة النفاق لهذا المعنى، وكذلك حبهم وحب علي كان في ذلك الزمان علامة للإيمان لهذا، وأما في الأعصار المتأخرة عن أول الإسلام فلا يدل على ذلك، فإن الخوارج يبغضون علياً ويكفرونه مع الإجماع على أنهم غير منافقين...إلى أن قال: وكذلك الروافض يحبونه مع ضلالتهم وفسوقهم...إلى قوله: وقصدت وجه الله في الذب عن هذا الصاحب المعتمد في نقل كثير من الشريعة المطهرة لما رأيت الحافظ الذهبي روى ذلك ولم يقدح في إسناده بما ينفع.
[المؤلف] الجواب: إن هذا الاعتذار غلط فاحش؛ لأن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ توفي قبيل الجمل، أما حال محاصرة عثمان أو بعده بيسير وأبو موسى لم يتخلف ويخذل عن علي عليه السلام إلا يوم الجمل، وقد قدمنا الجواب مع أن ابن عبد البر قد أشار إلى كلام حذيفة فيه، وفسر ابن أبي الحديد قوله فيه، وقد ذكر عنده بالدين، أما أنتم فتقولون ذلك، وأما أنا فأشهد أنه عدو لله ولرسوله وحرب لهما في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر:52] ا ه.(1/75)