وأما الصادق عليه السلام فقد روي في العلوم عن أحد العلوية أنه قال لجعفر الصادق: إن قوماً من أصحابنا خلطوا عليّ في شيء من الحجج، قال: فقال لي: ألست قد أدركت أباك وسمعت منه؟ قال: قلت: بلى، قال: ورأيت خالك محمد بن علي وسمعت منه؟ ورأيت خالك زيد بن علي وسمعت منه؟ قال: وعدد عليّ رجالا من أهلنا، قال: [في] كل ذلك أقول: بلى، قال: فقال لي: فانظر إلى ما سمعت منهم فخذ به وما سمعت به من غيرهم فارم به تهتد. ا ه‍.
فدلّ على أن الهدى عنده رد السماع عن غير أهله وأنه لا يؤخذ إلا عنهم.
وأما المؤيد بالله فقال ما لفظه: وعندنا لا يحل لأحد أن يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا إذا سمعه من فم المحدث العدل فحفظه ثم حدّث به كما سمعه، فإن كان إماماً تلقاه بالقبول وإن كان غير إمام فكذلك، ثم ما روي غير مرسل وصح سنده، فإن المراسيل عندنا وعند عامة الفقهاء لا تقبل.
قال أبو العباس الحسني ـ رحمه الله ـ : والفاسق لا يحتج بسنده، قال أحمد بن عيسى ـ رحمه الله ـ ما معناه: والذي نأخذ به قول أصحابنا وما أسندوا من ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله ولا أؤثر به على الأخذ بقول أصحابنا إذا صح عنهم القول فيه.
وأما محمد بن منصور، فقال في (تتمة الاعتصام): إن المعروف من مذهب أبي عبد الله اشتراط العدالة في المخبر، وقال فيها: ورواية الحافظ محمد بن منصور من أعلى درجات التعديل لمن أسند إليه من مشائخه.
قال في (الروض النضير): وقد ثبت عن قدماء أهل البيت" كزيد بن علي والباقر والصادق وأحمد بن عيسى والقاسم بن إبراهيم ومن في طبقتهم أنهم لا يروون ويحتجون إلا بمن ثبت لديهم عدالته وصح عندهم ثقته وأمانته. ا ه‍.(1/66)


فهذا كلامهم يدفع كلما ألصقه الإمام محمد في مصنفاتهم من العيوب والأوهام وغير ذلك مع أن عدالتهم ومعرفتهم مرجحة لتقديمهم على غيرهم كما ذكر في الرسالة، على أنا لو سلمنا لك جميع الدعاوي التي ادعيتها عليهم فقد اشتمل مصنفات أهل نحلتك على ذلك جميعه كما يعرفه المطلع المنصف وهذه كتبهم منادية عليهم بما قلنا، بل ذلك فيها كنار على علم.

[استطراد في ذكر المحدثين وذكر مسألة الرؤية]

[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: فأما الوجوه التفصيلية فقد اشتمل كلامه على مسائل:
المسألة الأولى:
مثل المردود من كتب المحدثين كحديث جرير بن عبد الله البجلي في الرؤية وهذا من الإغراب الكثير والجهل العظيم فإن المحدثين رووا في الرؤية أحاديث كثيرة تزيد على ثمانين حديثاً عن خلق كثير من الصحابة أكثر من ثلاثين صحابياً.
[المؤلف] قلت: الذين عدهم من الصحابة واحداً وثلاثين رجلاً، ومنهم عمر بن ثابت الأنصاري وعده صحابيا، وفي كونه صحابياً نظر وهذا التمثيل صحيح على قواعد المحدثين من أنه لا تقبل رواية المبتدع الداعية لا سيما فيما يجر إلى بدعته وإن كثر المخرج.
[الإمام] قال ـ رحمه الله ـ: المسألة الثانية: قال: إذا تعارض رواية العدل الذي ليس على بدعة ورواية المبتدع قدمت رواية العدل الذي ليس على بدعة وهذا مجمع عليه.
[ابن الوزير] والجواب عليه من وجوه:
أحدها: منع الإجماع الذي ادعاه بشهرة الخلاف، فقد أجمع أئمة الحديث على تقديم الحديث الصحيح على الحديث الحسن مع إخراجهم لأحاديث كثيرة من أهل البدع في الصحيح، بل إن في مراتب الصحيح وهو المتفق عليه المتلقى بالقبول من حديث الصحيحين، فحديث أولئك المبتدعة الذي اتفق الشيخان على تصحيح حديثهم مقدم عند التعارض على حديث كثير من أهل العقيدة الصالحة الذين نزلوا عن مرتبة أولئك المبتدعة في الحفظ والإتقان.(1/67)


[المؤلف] أقول: وهذا الكلام ممن لم يكن تأمل لمعاني كلام خصمه وحمله على سياق أوله، وإنما أراد المترسل إذا اتفق الراويان في الحفظ والإتقان فإنه يقدم رواية غير المبتدع ودليل ذلك عقلي لا يخالف فيه إلا غير العاقل.
أما استدلاله بفعل الشيخين فلا ينفي ما قلنا، سلمنا فليسا من أهل الترجيح وهذه المسألة من بضائع أهل أصول الفقه وأهل الفروع لا المحدثين وثقلاء الظاهرية المجسمين.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ: الوجه الثاني: إنا قد بينا أن الزيدية أحوج الناس إلى قبول المبتدعة وإن مدار حديثهم على من يخالفهم وإن كثيراً من أئمتهم نصوا على قبول كفار التأويل وادعوا الإجماع على ذلك.
[المؤلف] أقول: هذا من البهت، فإن احتياج المحدثين إلى رواة الشيعة أكثر وأحوج وكلامهم في ذلك مصرح به نقلاً صحيحاً غير مدرج، وهذه زلة منك ينبغي تداركها، أردت أن تفضح الزيدية ففضحت أهل نحلتك الظاهرية.
قال الذهبي: لو تركت رواية ثقاة الشيعة لذهب جملة من الآثار النبوية.
[الإمام] قال ـ رحمه الله ـ: قال: لأن رواية غيرهم لا تخلو من ضعف وإنما تقبل عند عدم المعارض يعني رواية غير أئمة الزيدية.
[ابن الوزير] أقول: هذا فضل للعدالة على أئمة الزيدية الذين ادعوا الخلافة، وهذا غلو لم يسبق إليه بل هذيان لا يعول عليه.
[المؤلف] أقول: هذا لا يلزم المترسل؛ لأنه ما قصد إلا العدول جميعاً الدعاة وغيرهم كما تقدم مع أن المخالفة في علم الكلام بينهم وبين أهل السنة ظاهر والتكفير والتفسيق فيما بينهم وبين العامة معروف، وكل دعاويه عليهم من قبول كفار التأويل فمقيد ولا يلزمهم مما ألزمهم شيئاً، وقول صاحب الرسالة: لأن الترجيح بالخبر إنما يكون بعد كونه صحيحاً، ولا يكون صحيحاً حتى يكون راويه عدلاً والعدالة غير حاصلة كما سنذكره.
[ابن الوزير] قال: أقول: نفي العدالة عن رواة حديث الكتب الصحيحة جهل مفرط لم يقل به أحد من الزيدية ولا من السنية...إلخ.(1/68)


[المؤلف] قلت: كلام صاحب الرسالة قويم؛ إذ لا يكون الترجيح إلا بين الصحيحين، والعدالة مشروطة وكل على أصله والزيدية قاطبة لا يقولون بعدالة مخالفهم إنما قبلوا روايتهم مع ظاهر آية أو نحو ذلك مما تقدم ذكره، والإجماع الذي ذكره قد تقدم ما عليه من المواخذة فلا تغتر.
وقول صاحب الرسالة: ولأنه لا يرجح بالخبر حتى يعلم أنه غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بما هو أقوى منه من إجماع أو غيره.
إن كان أراد بالعلم هنا الظن فما اعترضه به الإمام محمد غير سديد، وإن أراد به اليقين فينفرد بذلك دون غيره كما قرر في الأصول، هذا فيما مرجعه الأحكام دون العقائد فلا يؤخذ فيها بالآحاد.
وأما اعتراضه كلام المترسل في تسميته أهل الحديث حشوية فقد نقل عن (ضياء الحلوم) أن الحشوية سموا بذلك؛ لكثرة قبولهم الأخبار من غير إنكار، ثم ذكر أن المحدثين انتدبوا للذب عن السنن وبيان صحيحها من سقيمها.
وأقول: إن ذلك واقع لقبولهم للأخبار المعارضة للقرآن كخبر الرؤية وغيرها من أخبار التجسيم والفضائل، فتراهم يروون لأبي بكر ما يقتضي أنه أفضل الصحابة، فإذا عدوا فضائل عمر رووا له ما يقتضي تفضيله على المصطفى صلى الله عليه وآله فضلاً عن أبي بكر وعثمان بالأولى، وأما علي عليه السلام فإنهم إذا شموا روائح الشيعة ضعفوا ما روي فيه لأجل الشيعة.
وأما رده لما روي عن الحشوية من القول بجواز الكبائر على الأنبياء" لكلام الأشاعرة فغير صحيح كأنه ما علم أنا نعلم أن القاضي عياض والنووي ومن عده في كتابه هناك أشاعرة العقائد، وكلامنا في الظاهرية على أنه يلزم الكل من نفي التحسين والتقبيح العقليين وكون الكسب مجرد اعتبار، ولولا ضيق المقام لرميناهم بحجرهم لكن محل المسألة كتب الكلام.(1/69)


فأما نفيه عنهم القول بالعصمة لأحد غير النبي صلى الله عليه وآله فضعيف؛ لأنهم يعتقدون أن العشرة في الجنة وصاحب الكبيرة ولذا قرروا خروجه بعد تطهيره، ثم رووا خبر الاقتداء بالخلفاء وليس العصمة إلا هذا.
أما اعتذاره عن روايتهم عن الوليد ومروان وغيرهما من المجاريح فقد صرحوا بعدالة من روي أنه صحابي، حتى قال ابن حجر: إذا صحّ أن مروان صحابي فلا كلام.
[ابن الوزير] قال ـ رحمه الله ـ في شأن إيواء عثمان للحكم بن أبي العاص طريد رسول الله صلى الله عليه وآله ما لفظه: ولا حفظت في ذلك إلا ما ذكره الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي المتشيع في كتاب (شرح العيون) فإنه ذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله أذن في ذلك لعثمان، وهذا الجواب مقنع إن صحّ الحديث، لكني لم أعرف صحته.
فأما المعتزلة والشيعة من الزيدية وغيرهم فيلزمهم قبوله وترك الاعتراض على عثمان بذلك؛ لأن راوي الحديث عندهم من المشاهير بالثقة والعلم وصحة العقيدة إلا فيما لا يقدح به من الاختلاف في فروع الكلام وما لا يخرج من الولاية.
وأما الجواب المقنع عند النقاد فهو ما ألقاه الله على خاطري في ذلك فأقول غير خافٍ عمن له أنس بقواعد العلماء: أن أفعال النبي صلى الله عليه وآله لا تدل بنفسها على الوجوب بل ولا على الندب وإنما تدل على الإباحة...إلى أن قال: فإذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله فعلاً نظرنا هل دلت القرائن على أنه فعل ذلك متقرباً به إلى الله تعالى أو لا، فإن لم تدل القرائن على ذلك لم يجب التأسي فيه وكان من فعله على الإباحة من شاء فعله ومن شاء تركه...الخ.
[المؤلف] وجوابه من وجهين:
الأول: وإن روى الإذن لعثمان الحاكم فلا يلزم الزيدية؛ لمعارضته ما تواتر من الأمر بطرده من المدينة وتكذيب أبي بكر وعمر لعثمان حيث روي ذلك حتى روي أنهما انتهراه.(1/70)

14 / 46
ع
En
A+
A-