[المؤلف] والحاصل عند أئمتنا تصحيح كل ما نصوا على صحته من الأخبار وحصر طرقهم في أهل طريقتهم وهذه المندوحة التي ذكرتها غالبها غير مقبول عند النقاد مطرح الثمرة عند أهل الاجتهاد بل حذر من قبوله المصنفون وأنت منهم، بل الأعلام من الفرق عن ذلك هاربون ولتلك المندوحة مقبحون، أما قد اشترط محققوا الأصولين اتحاد مذهب المعدل والمعدَّل والجارح والمجروح؛ إذ الاختلاف في سبب الجرح والتعديل يقضي بعدم قبول الإطلاق فيهما ولو كان من عارف، فكم من جرح عند جارح تعديل عند الآخر، وقد جعلت في (تنقيح الأنظار) قولهم: كذاب. مما يلحق بالجرح المطلق، وقلت: لأنه يطلق على من يخالف ما تقرر عند المخالف كبعض الشيعة ومن ذلك قولهم: فلان هالك ساقط الحديث متروك، قد يطلق على المبتدع الداعية وربما كان من التورع عن الكذب والعدالة والحفظ بمكان، وقلت في سياق مراتب التخريج: فإن قلت: فأي هذه الألفاظ جرحه متبين السبب. قلت: ليس فيها صريح في ذلك ولكن أقربها إلى ذلك قولهم: وضّاع ـ انتهى.
قال في (التعليق الممجد على موطأ محمد): وبعض الجرح صدر من المتأخرين المتعصبين كـ (الدار قطني) و (ابن عدي) وغيرهما ممن تشهد القرائن الجلية بأنه في هذا الجرح من المتعسفين، والتعصب أمر لا يخرج منه البشر.
إلى أن قال: وقد تقرر أن مثل ذلك غير مقبول عن قائله بل هو موجب لجرح نفسه، قال بعضهم في الدارقطني: وقد تكلم في أحد الأئمة الأربعة ومن أين له تضعيفه وهو يستحق التضعيف بنفسه، فإنه روى في مسنده أحاديث مستقيمة ومعلومة ومنكرة وغريبة وموضوعة.
قال آخر: وهناك خلق لهم تَشَدُّدٌ في جرح الرواة يجرحون من غير مثال، ويدرجون الأحاديث الغير الموضوعة في الموضوعات، منهم ابن الجوزي، والجوزجاني، والمجد الفيروز آبادي، وابن تيمية الحراني، وابن القطان وغيرهم، فلا يجترئ على قبول قولهم من دون التحقيق إلا من هو غافل عن أحوالهم.(1/61)


ومنهم من عادته في تصانيفه ك‍(ابن عدي) في كامله، والذهبي في ميزانه أن يذكر ما قيل في الرجل من دون فصل ما بين المقبول والمهمل، فإياك ثم إياك أن تجرح أحداً بمجرد قولهم من دون تقيد بأقوال غيرهم...إلى أن قال: وبعض الجروح لا تثبت برواية معتبرة كروايات الخطيب في جرحه وأكثر من جاء بعده عيال على روايته وهي مردودة ومجروحة. ا ه‍.
وهذا كلامهم في بعضهم الآخر، ألا ترى أنا لو قبلنا قولهم في جرح الشيعة كافة، ومن قال: القرآن مخلوق أو توقف فيه، أو قال بعدم خلق الأفعال لله، أو روى ما يخالف قواعدهم لضاعت السنة، وأنورت البدعة، وانطمس الإسلام وأعلامه، وانهدم الدين وأركانه.
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره .... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
وأما ما في البيتين من الهجو وقوله:
……… (لا أباً لأبيكم)
فاختر -رحمك الله- أي آبائهم، إما محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله سيد الأولين والآخرين أو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- سيد الوصيين
أتهجوهُ ولست له بكفوٍ .... فشركما لخيركما الفداء
وفي أيهما اخترت ما يزجر اللبيب عن سبهما أو سب ذريتهما كما ذلك معروف مذكور في موضعه ولكن لا غرو، فمن أحب شيئاً استحسنه وإن قبحه المعقول والمنقول.
وأما قولك:
…… (فسدوا المكان الذي سدوا)
فقل لي ما هذا الثغر الذي سدوه، وهل (جَنَتْ براقش إلا على نفسها)، آذيتم الله ورسوله بذم عترته وشيعتهم وخيار المسلمين، ثم نقلوا عن أولئك فلم يكتسبوا إلا الإثم ولله القائل:
فدع عنك نهياً صيح في حجراته .... ولكن حديثاً ما حديث الرواحل
المقصود بهذه العلوم إبطال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر المخوف، وتزييف الخروج على البغاة، وتولي أعداء التنزيل، والتقرب إلى أئمة الجور بجرح أهل الحق والتعديل، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.(1/62)


[ابن الوزير] وأما قوله: فعلى الجملة فالزيدية إن لم يقبلوا كفار التأويل وفساقه قبلوا مرسل من يقبلهم من أئمتهم وإن لم يقبلوا المجهول قبلوا مرسل من يقبله، ولا يعرف فيهم من يتحرز عن هذا البتة، وهذا يدل على أن حديثهم في مرتبة لا يقبلها إلا من جمع بين قبول المراسيل ـ بل المقاطيع ـ وقبول المجاهيل، وقبول الكفار والفساق من أهل التأويل، فكيف يقال مع هذا، إن الرجوع إلى حديثهم أولى من الرجوع إلى حديث أئمة الأثر، ونقاده الذين أفنوا أعمارهم في معرفة ثقاته وجمع متفرقاته وبيان صحاحه من مستضعفاته...إلخ.
[المؤلف] أقول: هذه دعاوى لا برهان عليها، فقد قدمنا ما يدلك على أنهم لا يقبلون كفار التأويل وفساقه إلا مع ظاهر آية أو قياس أو بضم بعضها إلى بعض حتى يحصل ما يوجب الظن بصدقها، على أنا لو سلمنا لك هذه الدعوى فمنزلة المصنفين المشار إليهم في التطلع على مرويات الفريقين وأصولهم مع الورع الكامل والدين القويم في أعلى المراتب، وقد قلتم في حق البخاري ومسلم وأمثالهما ما لفظه: ومن وقف على قدح في بعض روايتهما أو تعليل لبعض حديثهما وكان ذلك من النادر الذي لم يُتلق بالقبول، فالذي يقوى عندي وجوب العمل بذلك؛ لأن القدح بذلك محتمل، والثقة العارف إذا قال: إن الحديث صحيح عندي وجزم بذلك ولم يكن له في التصحيح قاعدة معلومة الفساد وجب قبول حديثه بالأدلة العقلية والسمعية الدالة على قبول خبر الواحد، وليس ذلك بتقليد له بل عمل بما أوجب الله تعالى من قبول أخبار الثقات، ولو كان مجرد الاحتمال يقدح لطرحنا جميع أحاديث الثقات لاحتمال الوهم والخطأ في الرواية بالمعنى، بل احتمال تعمد الكذب لا يمنع القبول مع ظن الصدق.(1/63)


هذا وقد ذكر الإمام في (تنقيح الأنظار) بعد حكايته لكلام زين الدين في المسألة الخامسة ما لفظه: هذا الذي رجع إليه أهل الحديث هو بعينه الذي بدأ به أهل البيت" وهو قبول المراسيل من العدول والثقات الأمناء ولكن لا بد من تقييد المراسيل بما تقدم في بابها. انتهى.
وقال عند الكلام على المرسل المقبول: وهو ما نص على صحته ثقة عارف بهذا الشأن...الخ.
أقول: قرر ـ رحمه الله ـ هذا الجواب وهو غير مطابق لقواعد أهل نحلته ولكن قد أنصف القارة من راماها.
أما شرح القاضي زيد فهو منتزع من شرح أبي العباس للأحكام وغيره من كتب السيدين وشرطهما معروف ليس كما ذكر عنهما، و(أصول الأحكام) أخبارها أخبار (شرح التجريد) والغالب على أخبارها الإسناد وليس في أخباره من صح نكارته أو وضعه، فأما الضعف فيمكن، لكن لا يخرج ذلك عن الاحتجاج به، صرح به غير واحد من علماء السنة.
وأما الإمام يحيى عليه السلام فلا نعلم له قاعدة معلومة الفساد إلا قبول أخبار أهل الأهواء، والبخاري ومسلم قبلا ذلك، فإما اطردت قاعدتك هنا وإلا فما الوجه لتخصيص نقل أحد متفقي العدالة دون الآخر إلا لمجرد التعسف؟فما أجبتم به فهو جوابنا.
وأما قبول رواية المجهول وهو مذهب الشيخين كما قررنا سابقاً وحكى في (الروض النضير) عند الكلام على مس الذكر عن الذهبي ما لفظه: إن في البخاري ومسلم من لا يعرف إسلامه فضلاً عن عدالته. انتهى.
أما أئمتنا فلا نسلم ما حكي عنهم إلا مجهول العترة فقد ذكر ذلك عنهم، وهل هذه الإشكالات إلا مجرد دعوى أحاطت المحدثين بالحديث دون أهل البيت" وذلك من إنكار الضرورة، وينبغي للعاقل ترك ما رآه منكر الضرورات.
وأما صاحب (الشفاء) فمن قواعده قوله في (ينابيع النصيحة): إن رواية غير العدل الضابط مردودة بلا خلاف، وقال في ديباجة (الشفاء) زبدا مما صحت أسانيدها.(1/64)


وقوله في (كتاب البيع) بعد أن روى خبراً عن امرأة صحابية: فإن قيل: إن هذه المرأة التي روت هذا الخبر عن عائشة لا تعرف، قلنا: وهذا لا يلزم؛ لأن من روى هذا الخبر من أعيان الصحابة واحتج به قد عرفوها لولا ذلك لردوه وجهل غيرهم بها لا يقدح، ورده لخبر النبيذ؛ لقوله: وخامسها أنه رواه أبو زيد عن عبد الله وهو مجهول، ورده لحديث القهقهة بثلاثة نصّ أنهم مجاهيل وغير ذلك، فلو كان يقبل المجاهيل من الصحابة وغيرهم أو غير العدل لما رد هؤلاء، ونصه صريح يغني عن المحتملات، مع أنه لا يستكفي في الباب بخبر واحد، على أنا لا نسلم أن أصول أخبار الكتب المذكورة من لدى المحدثين فما نقلوه عنهم نادر، والنادر محمول على ما حملته في نادر أخبار الصحيحين وأمثالهما.
وقال الأمير الحسين: ومنها أن أخبار الآحاد لا يجوز الأخذ بها ولا العمل عليها إلا متى تكاملت شرائطها وهي ثلاثة:
أحدها: أن يكون الراوي عدلاً ضابطاً؛ لأن رواية غير العدل الضابط مردودة بلا خلاف...إلى أن قال:
ثانيها: أنه لا يعارض أدلة المعقول، ولا محكم الكتاب، ولا السنة المعلومة...إلى أن قال: ولا يرد في أصول الدين ولا فيما يؤخذ فيه بالأدلة العلمية. ا ه‍.
وهاك شروط أئمتنا":
فعند القاسم والهادي × لا يقبل من الحديث إلا ما كان متواتراً أو مجمعاً على صحته أو كان رواته ثقات، وله في كتاب الله أصل وشاهد.
وكلام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام في الأولين، وقال في الثالث: هو أن يكون الخبر سليم الإسناد عن المطاعن سليم المتن من الاحتمالات متخلصاً من معارضة الكتاب والسنة.
وكلام الإمام شرف الدين مثل ذلك، وقال في الآخر: أو صححه آل محمد.
فأما أبو طالب والحسن بن يحيى فقد تقدم كلامهما.(1/65)

13 / 46
ع
En
A+
A-