وقال المرتضى لدين الله محمد بن يحيى الهادي عليه السلام في بعض أجوبته: ((وقلت: لأي معنى لا ندخل الأحاديث في أقوالنا ولسنا ندخل من الحديث ما كان باطلاً عندنا وإنما كثير من الأحاديث مخالف لكتاب الله سبحانه ومضاد له، فلم نلتفت إليها ولم نحتج بما كان كذلك منها، وكلما وافق الكتاب وشهد له بالصواب صح عندنا وأخذنا به، وما كان من الحديث أيضاً مما رواه أسلافنا أباً فأباً عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وآله فنحن نحتج به، وما كان مما رواه الثقات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قبلناه وأخذناه وأنفذناه، وما كان خلاف ذلك لم نره صواباً ولم نقل به...إلى أن قال -رضي الله عنه: وفي الحديث الذي ترويه العامة ما لا تقوم به حجة، ولا تصح به بينة، ولا شهد له كتاب ولا سنة، وكل ما قلناه وأجبنا به فشاهده في كتاب الله تعالى، وفي السنة المجمع عليها عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أو حجة من العقل يصدقها الكتاب، فكل ما كان من هذه الطرق فهو أصح مطلوب وأنفذ حجة)).
وقال في (الزهور): إن عمر بن عبد العزيز روى لعلي بن الحسين عليه السلام خبراً فقال: عن من؟ فقال: عن فلان، فقال: إنه أكل من حلوائهم فمال إلى أهوائهم، وفيها عن أبي طالب أنه قال: لا يقبل خبر فاسق التأويل وكافره.
وروي عن أبي طالب أنه قال: وكيف نقبل رواية من شرك في دماءنا وسود علينا؟!!
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام ما لفظه: ((وما يجري في كتب أصحابنا وغيرهم من إيراد أحاديث من لا تقبل روايته عندهم، فإنما يوردونه لأغراض لا يلزم من إيرادها العمل بها مثل الاحتجاج بها على من يقبله أو يقويه، أو الترجيح لما يوافق، أو المبالغة والاستئناس، أو تقوية قياس أو ترجيحه على ما يساويه في الأساس، أو زيادة ترغيب وترهيب فيما لا يحتاج فيه إلى إثبات حكم من أحكام الشريعة من الأذكار والأوراد والطب والرقية وغير ذلك)) انتهى.(1/51)


قال العلامة المحقق المقبلي: وهذان البخاري ومسلم رويا عن عقبة بن سعيد بن العاص وهو جليس الحجاج، وعن مروان بن الحكم، وتجنب البخاري من لا يحصى من الحفاظ العباد كما تخبرك عنه كتب الجرح والتعديل مع أن من رويا عنه متكلم فيه بالضعف الكثير، بل في رجال الصحيحين من تكلم فيه كذلك، ومنهم من لم يعدل صريحا ولا كثر الرواة عنه حتى يصير كالمعدل.
قال -يعني الذهبي- في ترجمة يحيى بن مالك الذماري: في رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحداً نصَّ على توثيقهم. انتهى.
وذكر القاسم بن محمد عليه السلام أن المتكلم فيه عند البخاري ومسلم ممن خرجا عنه قدر ألف ومائتين.
قال في (الرسالة المنقذة): وقالوا: إن البخاري نظر في كتاب مسلم بمحضر منه فعلّم على جماعة عدهم مسلم من الصحابة وهم من التابعين، وجماعة عدّهم من التابعين وهم من الصحابة، ورغب مسلم عن جماعة لم يرغب عنهم البخاري كما قالوا في عكرمة وعاصم بن علي وغيرهما، وحكوا أن مسلماً لما وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة فأنكر عليه وتغيظ وقال: سميته الصحيح فجعلته سلماً لأهل البدع وغيرهم!
وقالوا: اعتمد البخاري على كثير ممن يقول بالإرجاء وغيرهم من أهل التدليس ومجاهيل ومتكلَّم فيهم، فالذي تكلم فيهم بالجرح بحق وباطل ممن اعتمدهم ثلاثمائة وخمسة وخمسون رجلاً، والذي علق بهم من المتكلم فيهم خمسة وسبعون رجلاً، والمجاهيل المختلف فيهم وفي تعيينهم مائة وثمانية وأربعون رجلاً...إلى أن قال فيها: عدد من أخرج له البخاري ولم يخرج له مسلم ـ يريد أن مسلماً استضعفهم ـ أربعمائة وأربعة وثلاثون شيخاً، وعدد من احتج بهم مسلم ولم يحتج بهم البخاري -يريد أن البخاري استضعفهم- ستمائة وعشرون شيخاً...إلى أن قال فيها: ومثله ذكره ابن حجر. انتهى ما نقلته من المحاسن.
قلت: وقد ذكر مثل هذا ابن حجر في مقدمة (فتح الباري).(1/52)


إذا عرفت هذا علمت أنه روى الإجماع عنهم مجازفة، وعدم تثبت في النقل، وتدليس في الحكاية عنهم على من لا بصيرة له بهذا الشأن، واستنفر بيد شلاء وصال على خصمه بيد جذاء، ولو عاملناه بما عامل الزيدية به لكان أهلاً أن يرمى بعدم العدالة والتثبيت، وبالتدليس، يعلم ذلك من يقف على كتب الزيدية ومصنفاتهم ورواياتهم ثم يقف على روايته عنهم.

الوجه الثالث: في ذكر من بلغنا أنه انتقد على البخاري ومسلم
فمنهم الدارقطني استدرك على البخاري ومسلم أحاديث طعن في بعضها وذلك الطعن مبني على قواعد المحدثين، ولابن مسعود الدمشقي عليهما استدراك، ولأبي علي الغساني.
قال الشيخ محيي الدين في مقدمته لشرح مسلم ما نصه: فصل قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلاَّ فيها شرطهما ونزلت عن درجة ما التزماه. انتهى عن (مقدمة فتح الباري).
ومن أراد استيفاء ما قيل في الصحيحين من أهل الأحاديث فليقف على (مقدمة فتح الباري) ليعلم عدم وقوع الإجماع الذي زعمه الإمام محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ وأنه قد تكلم في صحتهما الموالف والمخالف بالحق والباطل، وليس مقصدنا إلا رداً للدعاوى الموهومة من العبارات النادرة، وإلا فأئمتنا ـ “ ـ لم يقطعوا بكذب ما في الصحيحين جميعه، بل قبلوا ما عرفوا صحته.(1/53)


قال السيد البدر المنير محمد بن إسماعيل الأمير ـ رحمه الله ـ ما لفظه: قد تتبع أئمة هذا الشأن وفرسان الميدان ما صحح الشيخان فوجدوه مبنياً على أساس صحيح وجزم بالرواة ومعرفة وإتقان، وإن وجد الشيء اليسير في رجالهما مما انتقده الحفاظ من بعدهما كانتقاد الحافظ أبي الحسن الدارقطني على الشيخين فإن مجموع ما انتقده عليهما من الأحاديث مائة حديث وعشرة، انفرد البخاري منها بثلاثة وسبعين حديثاً، واشترك هو ومسلم في اثنين وثلاثين حديثاً، وقد أجاب عنه غيره من الحفاظ بأجوبة فيها الغث والسمين، وجملة من قدح فيه من رجال البخاري ثلاثمائة وثمانية وتسعون، وقد دفع الحافظ ابن حجر ما قدح به فيهم بعضه فيه تكلف وبعضه واضح.
إلى أن قال: وبهذا التحقيق علمت مزية الصحيحين لا ما ادعاه ابن الصلاح من تلقي الأمة لهما بالقبول فإنه قول غير مقبول قد حققنا في (ثمرات النظر في علم الأثر) بطلانه بما لا مزيد فيه.
ومثله في البطلان قول العلامة الجلال في ديباجة (ضوء النهار) إنه يجب العمل بما حسنوه أو صححوه كما يجب العمل بالقرآن، فإنه كلام باطل قد بينا وجه بطلانه في (منحة الغفار). انتهى.
وأما استدلاله على الصحة بمجرد التسمية فقد أطلق أهل البيت على أئمة الجور أسماءهم كالمهدي العباسي والهادي والرشيد وتبريهم منهم ظاهر غير خفي فلا يستحي من يدعي العلم والفهم أن يبني محاججته على مثل هذه الخرافات.(1/54)


وأما قوله: إنه يلزمهم ذلك من قولهم بقبولهم رواية أهل التأويل فمن التمويه؛ لأن القائل بذلك منهم لا يقبل ذلك إلا بشروط قد ذكروها، منها ما قد مضى من كلام الإمام القاسم والحسن بن يحيى، ومنها ما ذكره الإمام شرف الدين فإنه روي عنه في المحاسن ما لفظه: وسائر الأحاديث إنما يذكرها من يذكر إما لاستظهارها مع ظاهر القرآن أو سنة صحيحة أو استشهاد بضم بعض إلى بعض من المحتملات، أو تقوية قياس يثبت الحكم به في المسألة، أو زيادة ترغيب في الطاعة، أو ترهيب عن معصية، أو قطع حجاج خصم يقول بقبول مثل ذلك.
إذا عرفت هذا فليخبرنا في وقت وقع الإجماع، أما أوائل الزيدية فإنهم لا يقبلون إلا ما كان من طريقهم، وأما المتأخرون فقد بينا كيفية قبولهم لأخبار العامة، على أننا ننكر عليه دلالة الموافقة من الألفاظ التي حكاها عن المنصور بالله عليه السلام وغيره مع تقدم الخلاف وتأخره من الفريقين كما ذكرنا، ومن ادعى دعوى فعليه البرهان وترجيحه لصحيح البخاري نظر له لا يلزم الغير على أنه لو أنصف لما رووا عن الفربري من أنه سمع الصحيح معه عن البخاري تسعون ألفاً وأنه لم يبق من يرويه غيره منهم لاستشكل أمرين:
أحدهما: ذكر العدد وموتهم جميعاً فما هذا الاتفاق العجيب ولم يبلغنا أنهم حضروا واقعة قتال فهلكوا أو رميوا بطاعون فبادوا.
ثانياً: إطلاقه لعدم الراوي غيره، وقد زعموا أنه رواه إبراهيم بن معقل النسفي، فإما أن يكون الفربري ادعى تفرده بالرواية باطلاً أو حقاً فاختر أيهما وأنت بعد الحكم، وقد نقلت عن ابن الصلاح في كتاب (علوم الحديث) أن في البخاري ما ليس بصحيح...إلى أن قال: إن كون ذلك فيه معلوم، فاعلم ذلك فإنه مهم خاف. انتهى.(1/55)

11 / 46
ع
En
A+
A-