فهذه مقامات أهل البيت عليهم السلام فلو تركوا شيئاً من أمر اللَّه تعالى لخوف سطوة الظالمين لترك جعفر عليه السلام الكلام في هذا المقام المشهود، ثم لم يقنع بكلامه على المتكلم حتى تناول صاحبه أبا جعفر وهو يومئذ ملك مسلط، ولا سيما بعد قتله لمحمد، وإبراهيم عليهما السلام، وحالهما حالهما.
فقال: وأما ماقلت من شر فأنت به أولى، وصاحبك [به] أحرى، ولايريد بصاحبه إلا أبا جعفر فلم يمنعه المخافة من قول الحق، وإشهار صاحب البدعة لإعزاز دين اللَّه.
وقد روينا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي، موكلاً يعلن الحق، وينوره، ويرد كيد الكائدين فاعتبروا ياأولي الأبصار وتوكلوا على اللَّه))، فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الولي الموكل من أهل بيته يعلن الحق، وينوره، فهل ينوره إلا وهو حاضر غير غائب، مقاوم غير هارب، يردع أهل البدع بالبرهان، وأهل السطوة بالسيف والسنان!؟ ولا فرض على القائم أن يقهر الخلق، وأن يملك الأرض، وإنما فرضه إبلاء العذر في إعزاز دين اللَّه، والجهاد في سبيل اللَّه، قال [اللَّه] تعالى: ?لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا?، و?لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا? فقد يعبد اللَّه تعالى ببذل الجهد واستفراغ الوسع في إعزاز دين اللَّه وصلاح أمور المسلمين، فإذا توارى عن الأمة، وغاب عن أوليائه، وأعدائه كانت لهم الحجة عليه.
أما أولياؤه فيقولون لو أتيت لفعلنا وصنعنا وبذلنا أرواحنا وأموالنا، وأما أعداؤه فيقولون لو ظهرت حجة اللَّه لأطعنا.(1/356)
وقد روي أن هارون المسمى بالرشيد قال: والله ما بيني وبين الإمامية خلاف، ولئن خرج إمامهم على الصفة التي يقولون لأكوننَّ أول من يسمع له ويطيع، وإنما عدوى وعدوا أبائي هؤلاء الزيدية الذين كلما خرج من أهل هذا البيت خارج أصلتوا أسيافهم، وتغسلوا، وتحنطوا يطلبون في الموت بين يديه الجنة، ولاشك أن هذه صفة الزيدية رحم اللَّه ماضيهم، وثبت باقيهم.
لما أتى هرثمة بن أعين الكوفة في ثلاثين ألف مقاتل هو في مقدمتهم في عشرة الآف فارس، خرج من الكوفة أربعة الآف زيدي متحنطين مصلتين أسيافهم فهزموا هرثمة وجنده، وقتلوهم قتلاً ذريعاً، وأسر ولم يعرف فكر أصحابه فاستخلصوه.
وقد رددنا على الإمامية في هذا الكتاب واستقصينا كل حجة يمكنهم الإحتجاج بها مما وضعوه في كتبهم، ومما يجوز أن يضعوه مما خطر في خواطرنا.
وقد شاركهم بعضنا يامعشر الزيدية في دعوى غيبة الإمام كالمغيرية في دعواهم غيبة محمد بن عبدالله النفس الزكية عليه السلام، والطالقانية في دعوى غيبة محمد بن القاسم صاحب الطالقان عليه السلام، واليحيوية أصحاب يحيى بن عمر عليه السلام، والحسينية في دعوى غيبة الحسين بن القاسم عليه السلام كل هؤلاء من خلصان فرق الزيدية إلا المغيرية فقد حكي عنهم تخليط في الإعتقاد.
فإن كانت المذاهب تثبت بمجرد الدعاوي فقد شارك أصحابنا الإمامية في الدعوى، وإن كان لابد من البيان، والبراهين الموصلة إلى العلم فالأدلة محصورة في العلوم العقلية، وفي السمعية، وهي تنقسم إلى: الكتاب الكريم، والسنة المعلومة، والإجماع من العترة الطاهرة، والأمة الوسط الآخرة.
وليس في هذه الأصول دليل على حياة، ولا غيبة، وإن زعم ذلك زاعم فالحاجة إلى العلم به ماسة، ولا مخبأ بعد بؤس، ولا عطر بعد عروس.(1/357)
وإن اقتصر على مجرد الشهادة فكل أهل مقالة يشهدون قطعاً بصحة مقالتهم، ولكن فذلك لايخلص عند التحقيق، والله عز من قائل يقول: ?إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[الزخرف:86]، فجعل العلم أصلاً للشهادة في المعنى، وإن أخَّره في اللفظ، ولما أتى الشاهد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن الشهادة فأراه الشمس، وقال: ((على مثلها فاشهد وإلا فدع)).
فإن ادَّعى مدع العلم بما شهد به فلا بد للعلم من طريق، وطرق العلم محصورة قد ذكرناها في صدر كتابنا هذا وهي: المشاهدة، وتوابعها، والبديهيات فهي أصلها، ومخبر الأخبار المتواترة، والنظر، والإستدلال، ولاشيء من هذه الطرق توصل إلى العلم بغيبة غائب، والقطع على حياته لأن الأخبار لو تواترت بحياته في مكان لجوَّزنا موته بعد مفارقة المخبرين لنا عنه، وإن شهد الشاهد على أن الإمام قضي بأنه لايموت، ولا يقتل حتى يكون كذا وكذا، فإنا نقطع على استحالة هذه الحكاية عنه أو نتناولها على مايوافق الأدلة لأن المتقرر من المذهب أن الإمام لايجوز له التغيب عن الأمة بحيث لايعلم أولياؤه مكانه.
ولقد عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي أني ذاهب إلى بير ميمون [فلما أتى أبو بكر يسأل عنه قال له علي: ذهب إلى بير ميمون] فتبعه، وسارا إلى ثور، ودخلا الغار، والمتاع يأتيهما إلى الغار من آل أبي بكر، وما به إمام يدعى غيبته إلا وقد قامت لأتباعه شوكة، وظهرت لهم كلمة فلو كان الإمام حياً لما استجاز التأخر عن شيعته، وأهل مقالته، ولا سيما إذا أحسَّ منهم بعض القوة، ولما استقل أن يقيم أمر اللَّه تعالى، ولو يوماً واحداً، وقد فعل ذلك كثير من أئمة الهدى عليهم السلام كزيد بن علي، وابنه يحيى، وكأولاد عبدالله بن الحسن عليهم السلام النفس الزكية، وإخوته، والحسين بن علي الفخي، وغيرهم من أئمة الهدى سلام اللَّه عليهم.(1/358)
فعلى العاقل أن ينظر لنفسه ويتحرى النجاة بجهده ولا يقبل الهوينا في طلب أدلة دينه، ولا تقليد غيره في مذهبه.فقد روينا عن أبينا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء اللَّه، وعن التدبر لكتابه، والتفهم لسنتي زالت الرواسي، ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال، وقلدهم فيه [ذهبت] به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين اللَّه على أعظم زوال)).
وفقنا اللَّه وإياكم لصالح الأعمال، وصلى اللَّه على محمد وآله خير آل، والحمد لله أولاً، وآخراً كما أهله، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل.(1/359)