ولما حضر الحسين الفخي عليه السلام للقتال، ودعا القوم إلى اللَّه تعالى وهو في ثلثمائة وبضعة عشر عدة أصحاب بدر، والقوم في أربعين ألفاً فلما لم يقبلوا حاكمهم إلى اللَّه تعالى وجاهدهم فجعلوا يصيحون به: ياحسين، لك الأمان ياحسين لك الأمان فجعل يحمل عليهم وهو يقول: الأمان أريد [الأمان أريد]، يريد عليه السلام من عذاب اللَّه تعالى بجهادهم، فإذا كان الإمام يفرَّ بنفسه عن أمر اللَّه تعالى، ويضيع الجهاد في سبيل اللَّه تعالى، وإقامته حدوده، وإنفاذ حكمه، وقمع الظالمين وإخافتهم فهو ممن لم يبع نفسه من ربه.
فإن قيل: إن اللَّه لم يأذن له في الخروج.
قلنا: هذا خلاف المعلوم من دين الإسلام لأن اللَّه أمر العباد بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيله عموماً، والأئمة خصوصاً.
فإذا قال الإمام: لم أومر بالجهاد، ولا بإقامة الحدود، ولا بمنابذة الظالمين، ولا بالأمر بالمعروف، ولا بالنهي عن المنكر.(1/351)
قلنا: فبماذا أمرت؟ ولماذا أردت؟ هذا خلاف المعلوم من الدين فلا نقبله من أحد من المتعبدين، وهل هذا في ضرب المثال إلا كما لو قال: لم أؤمر بالصلاة أو لم أؤمر بالزكاة، فكما أنَّا لانصدقه في ذلك لانصدقه في هذا لأن الجميع فروض اللَّه تعالى على عباده، وتعذرها في وقت لايسقطها في وقت آخر، ولو أن المكلف اعتذر [أن في القيام] بالتكليف بأنه عاجز، ولا يقدر عليه لما صدقناه، وألزمنا نفي عدالته، وإن كان صدقه يجوز كما إذا علمنا شخصين أحدهما صحيح سوي، والثاني مقعد يعلم حاله كذلك، وقلنا قوما للصلاة، قال المقعد: لاأقدر، وقال الذي نعلم صحته: لاأقدر فإنَّا نعذر المقعد، ولا يعذر الصحيح، وإن جوَّزنا أن يعدمه اللَّه القدرة في تلك الحال، فهؤلاء أئمة ادَّعى لهم جهال أشياعهم أنهم قدروا على الفرار، ولم يقدروا على الجهاد ثم جوزوا استمرار العذر آخر الدهر لأن حكم مابقي كحكم مامضى في أن التكليف فيه مستمر فلئن جاز للإمام تعطيل الأحكام، وترك الجهاد، والدعاء إلى اللَّه تعالى، ومنابذة الظالمين، وقبض الحقوق، وإقامة الحدود، وترك الجمعة إلى غير ذلك من أعمال الإمامة فيما مضى ليجوزن له ترك ذلك فيما بقي، وإلا فما المخصص إذا الحال واحدة، والشرط واحد، ولأن الأمة مجمعة على أن الإمام إذا رفض الأمة، وترك النظر فيها، وأهمل الحدود تبطل إمامته.(1/352)
وعندنا إذا احتجب احتجاباً غليظاً يضيع به دهماؤهم كان ذلك قدحاً في إمامته لأنه إنما يراد لصلاح الأمة، وكشف الغمة، أو إبلاء العذر في ذلك بالدعاء إلى اللَّه تعالى، ومنابذة أعدائه، والجهاد في سبيله فإن عُصِي فقد عُصِي أنبياء اللَّه تعالى، وإن حُورب فقد حوربوا، والحجة قائمة لله تعالى، ولرسله على أعدائه، ولو عدم الرسل والأئمة قبل الدعاء لما بلغت الحجة ولا لزم حكم البرهان، وقد قال تعالى: ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً?[الإسراء:15]، فقول من قال: بانكتام حجج اللَّه تعالى، وهرب الدعاء إليه، والأدلة عليه قول ينافي موضوع الدين، ويخالف مذهب الأئمة الهادين فإنهم يغضبون لله تعالى كالنمر إذا طرد، ويركبون حد الشفار ضاحكين مستبشرين بالموت لما علموا وراءهم من الفوز العظيم والملك العقيم.
وروينا في كتاب (الشواهد) مابلغ الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين في كلام له: ولا يسكنوا إلى علمائهم فإنهم أجهل من جهالكم، ولم يكن اللَّه ليجعل فصل الخطاب والحمكة والصواب فيهم، وهم الحق يكتمون، ولأهل الباطل يداهنون، وإنما يؤتي الله الحكمة من فهم عنه، وعمل بطاعته، وشمَّر طلباً لمغفرته، إن ولي أموركم، وملك طاعتكم الذي بنوره تهتدون، وبطاعته تفوزون.
فبين صلى الله عليه أن ولي الأمر المشمر، والفرار ينافي التشمير، والغيبة تنافي التبيين، فكيف يهتدي بنوره من لايعرف مكانه، ولا تتواتر إلينا أعلامه، ولا تنفذ في الأمة أحكامه لأن الطاعة هي امتثال ما أمر به المطاع، وهؤلاء الشيعة أضافوا إلى أئمة الهدى عليهم السلام النقص، وألزموهم المعصية، وهم أبرأ الناس من ذلك، وأولى بكل فضيلة، وحاشى لمثلهم أن يؤثروا الفاني على الباقي، أو يخلوا بشيء من فرائض اللَّه سبحانه، أو يدعوا أمر اللَّه تعالى لخوف ضرر زائل.(1/353)
وعلي عليه السلام قدوة الأمة، وقد خالفه الكل بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يغيب شخصه، ولم تغيب حجته، ولم يضرع لعدوه في مقامات الجدال فلم تزل حجته قائمة حتىلقي اللَّه سبحانه، وقد خرج [من] عهدة مايلزمه، فهل تصح إمامة من لماينسخ على منوال علي عليه السلام، وهو إمام الأئمة وسيد الأمة.
وهل تكون الحجة أيها الناظر لنجاة نفسه مكتومة؟ وهل تكون غائبة أو حاضرة؟ وهل تكون مجهولة أو معلومة؟ وإلى أين تقصد؟ وأين توجد؟ وكيف السبيل إلى كشف المشكلة، ودفع المعضلة؟ إذا كان الإمام لايعلم مكانه، ولا يشاهده إخوانه، وأعوانه، فإذا جمع اللَّه الأولين، والآخرين وقالوا: [يارب] طلبنا إمامنا لنصرته، والجهاد بين يديه، والذب عنه فلم نجده، وقال الإمام: خفتهم فهربت منهم فمن قولهم وكيف يخاف الولي وليه، وكيف يخاف الإمام من يأتم به، فما به أحد ممن يدعي له الغيبة إلا وله عدة أتباع تقوم بمثلهم الحجة.
فلئن قيل: أنهم يعصون في بعض الأحوال، ولا يطيعون الإمام.(1/354)
[وجوب ظهور الإمام ودعائه إلى الدين]
قلنا: إن هذا مظنون، والمظنون لايترك له المعلوم، والمعلوم وجوب ظهور الإمام، ودعائه إلى الدين، ولأن أصحاب علي عليه السلام قد كانت المعصية تظهر منهم، ومخالفته تقع منهم، وذلك موجود في خطبه عليه السلام فلم يسقط فرض الجهاد، ولا انحل نظام حق القيام، بل كانت الحجة لله تعالى، وله على الأمة ظاهرة إلى أن [الحق] بدار الآخرة، ثم تبعه أبناء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أبو محمد الحسن، وأبو عبدالله الحسين بمثل حاله، وحذوا على مثاله، حتى لقيا اللَّه تعالى فائزين بفضيلة السبق، وشرف الشهادة، وكذلك [الظاهرون] من ذراريهما سلام اللَّه عليهم ماسكنوا عن إقامة الحجة، ومناضلة أعداء العترة في مقامات تشخص فيها الأبصار، وتزل الأقدام.
وقد روينا بالإسناد الموثوق به إلى السيد أبي طالب عليه السلام قال: أخبرنا أبي رحمه اللَّه، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن أحمد بن إدريس، عن سلمة بن الخطاب، عن معاوية بن الحكم، عن محمد بن موسى، عن الطيالسي قال: لما قتل أبو جعفر، محمداً، وإبراهيم عليهما السلام وجه شبة بن عقال إلى الموسم لينال من آل أبي طالب فحمد اللَّه، وأثنى عليه ثم قال: إن علي بن أبي طالب شقَّ عصا المسلمين، وخالف أمير المؤمنين، وأراد هذا الأمر لنفسه فحرمه اللَّه أمنيته، وأماته بغيظه، ثم هؤلاء ولده يقتلون، [وبالدماء يخضبون]، فقام إليه رجل فقال: الحمد للَّه رب العالمين، [وصلى اللَّه] على محمد، وأنبيائه المرسلين، أما ماقلت من خير فنحن أهله، وأما ما قلت من شر فأنت به أولى، وصاحبك [به] أحرى، يامن ركب غير راحلته، وأكل غير زاده ارجع مأزوراً غير مأجور ثم أقبل على الناس، [فقال]: ألا أخبركم بأبخس من ذلك ميزاناً، وأبين خسراناً من باع آخرته بدنيا غيره، وهو هذا ثم جلس فقال الناس: من هذا؟ فقيل: جعفر بن محمد عليهما السلام.(1/355)