[شبهة والرد عليها]
شبهة
قالوا: إن علياً عليه السلام لما كان مفزعاً للصحابة لكونه إماماً كذلك كل إمام بعده.
الكلام في ذلك: إن الأمر كذلك يكون كل إمام مفزعاً لأهل العصر الذين هو فيهم، ولكن من أين ذلك يوجب مماثلة كل مفزع لعلي عليه السلام؟ فما به إمام [مجمع] على فضله إلا وهو يعلم فضل من سبقه.
ولقد كان علي بن الحسين عليه السلام سيد العابدين، وكان إذا أجهدته العبادة، دعى بورد علي عليه السلام فنظر فيه ثم يهز رأسه، ويقول: من يقدر على هذا، وقد قال الحسين عليه السلام: رويناه مسنداً، لما عزا أهل بيته عن نفسه، فقال: قد كان أبي خيراً مني، وأمي خيراً مني، وأخي خيراً مني فلم يذهب ذلك فضله، ولا هو بالمفند في قوله، هذا ظاهر معلوم لمن له بصيرة، أن أحداً من ذرية علي عليه السلام لم يبلغ إلى درجة علي عليه السلام، وإنما الفاضل الكامل من أخذ منه شبهاً في كثير من أحواله، ومن يبلغ إلى درجته صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أول من يدخل الجنة علي بن أبي طالب)) فقيل: يارسول اللَّه، ألست أول من يدخل الجنة، فقال عليه السلام: ((أوليس علي يحمل لوائي، وصاحب اللواء يكون في الأول، وأن منزله في الجنة يواجه منزل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كما يتواجه منزل الأخوين، وأنه سيد الوصيين، ولابد السيد أن يكون أفضل ممن يسود عليه.(1/346)
[شبهة أخرى والرد عليها]
شبهة
قالوا: إنه مع كونه معصوماً، ومفزعاً للخلق يكون أصلح لتكليفهم في ذلك وهذا واجب في الدين.
الكلام في ذلك: إن الأصلح في الدين غيب لايعلمه إلا اللَّه تعالى فلا يصح التحكم فيه بحال من الأحوال لأن الحكم لو جرى في مثل هذا بالظن والحسبان لقلنا: الأصلح في الدين أن يجعل اللَّه تعالى للإمام جنوداً وقضاة وعمالاً معصومين لكيلا تختل الأوامر ولايعصي الإمام، فإن علياً عليه السلام ما أُتيَ إلا من عصيان أصحابه، ولهذا قال: أفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قال رجل من قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لاخبرة له بالحرب، [فقال]: لله أبوهم رأيهم أعرف بها مني وأنا نشأت فيها، ولم أبلغ العشرين، وهاأنا قد نيفت على الستين، ولكن لارأي لمن لايطاع، وظننا يقضي أن حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أصلح في الدين لأن الفتنة وقعت من بعده وقدَّم غير وصيه ومن نصَّ عليه بالإمامة.
ونقول: بأن الأصلح كان بأن ينصَّ على علي عليه السلام نصَّاً جلياً يصرِّح فيه، ويقول: لايبايع بعد موتي إلا هذا، ومن بايع غيره، وعقد له الإمامة فعليه لعنة اللَّه، أو هو بريء من الإسلام، ولكن هذه التحكمات لاتصحُّ على علاَّم الغيوب، وإنما يجب التسليم، وكما يجوز أن يكون الأصلح أن يكون الإمام معصوماً يجوز خلافه.
وأما أنه واجب في الدين قالوا: يجب علينا موالاته ومحبته على سلامة ظاهره، وكل إمام حق فهو سليم الظاهر فإن كانت سلامة الظاهر تدل على العصمة فكل إمام من أئمة الزيدية معصوم لأنه لايعلم منهم سلام اللَّه عليهم من باشر المعاصي صغيراً، ولا كبيراً، ولاغضباناً، ولا راضياً، والواجب علينا طاعته، واتباعه في المكروه والمحبوب.(1/347)
[قول: المعصوم يؤدي إلى العلم والرد عليها]
شبهة
قالوا: إن قول المعصوم يؤدي إلى العلم وقول غيره يؤدي إلى الظن فكان قول المعصوم أولى في باب الدين لأن العلم أولى من الظن.
الكلام في ذلك: إن العلم المطلوب من الإمام ينقسم إلى قسمين: أصول الدين، وأصول الشرع، فأصول الدين معلومة بالأدلة العقلية، ولا يجوز الإقتصار فيها على تقليد الإمام ولا غيره، وأصول الشرائع معلومة ضرورة فلا يفتقر فيها إلى نقل الإمام، لأنَّا لانحتاج في علم الضرورة أن يرجع إلا إلى علم أنفسنا، وسائر المسائل في فروع الفقه قد بيَّنا فيها اختلاف الإمامية، واختلاف رواية ثقاة شيوخهم عن الأئمة عليهم السلام، وروايتهم عنهم أن الواحد منهم يفتي في المسألة الواحدة بثلاثة أحكام مختلفة، فكيف يختلف العلم!!، وقول المعصوم، وغير المعصوم يؤدي إلى العلم في المعلوم، وإلى الظن في المظنون، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نُوزع في آرائه في أمور الدنيا، والحروب لما كان ظانَّاً فيها لم يحصل العلم بمجرد قوله.
ولهذا فإنه لما حط في أسفل الوادي يوم بدر جاء إليه رجال من الأنصار، فقالوا: يارسول اللَّه، أموقف أوقفناه اللَّه لايجوز لنا نتعداه إلى غيره أم هو الرأي والحرب، والمكيدة؟.
[قال: بل هو الرأي، والحرب، والمكيدة]، قالوا: فالرأي أن نصعد إلى أعلى الوادي فنحوز الماء خلف ظهورنا، ونقاتل العدو من وجهٍ واحد فساعد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما كتب الكتاب يوم الأحزاب لعيينة بن حصن وأتباعه من غطفان بتسليم ثلث ثمار المدينة على أن يفارقوا قريشاً وكنانة، فأتاه السعدان سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ فقالا: يارسول اللَّه، أمر أمرك اللَّه به فالسمع والطاعة لله، ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أم نظر نظرته لنا؟.(1/348)
فقال: بل نظر نظرته لكم، فقالوا: يارسول اللَّه، لقد كنَّا على الكفر، وعبادة الأوثان فما طمعوا في ثمرة من ثمرها، إلا أن يكون قرى أو شرى، فكيف وقد أعزنا اللَّه بالإسلام وبك يارسول اللَّه، فصوَّب رأيهما، ومزَّق الكتاب.
وكذلك مايقول في الإمام إذا تحرى جهة القبلة فأصاب أو أخطأ، ما الطريق إلى حصول العلم بمجرد قوله في المظنونات؟.
وقد روت الإمامية عن جعفر بن محمد عليه السلام أنه سئل: مايكون رفع الشك عند التباس جهة القبلة؟ فقال: يصلي إلى الأربع الجهات إلى كل جهة صلاة فلم يقطع بمجرد قوله عليه السلام، وهو معصوم عندهم إلا كما يقول من يعمل بالتحري والحسبان.
ولأنا نقول: إن التكليف لو كان موضوعاً على الأولى عندنا لكان الأولى أن يكون كل واحدٍ من المكلفين معصوماً فلا يحتاج إلى عصمة أحد من إمام وغيره، ولأن الأحكام التي تفتقر إلى النظر، والرجوع فيها إلى المعصوم كان الأولى أن يكون مراد اللَّه تعالى معلوماً لنا ضرورة، كما نعلمه من كثير من قصود المخاطبين فإنَّا نعلم مراده ضرورة، فلا نحتاج إلى تعليل الإمام ولا بيانه. فإلى أي غاية ترى أوصل احتجاج الذي هذا الكلام فيه صاحبه، وأكثر مايحتج المخالف في هذه المسائل وغيرها وما يؤدي إلى غيبة الإمام بأخبار يرويها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإمام الذي يدعي له الغيبة، وأفضل المسموعات من الكتب المنزلة القرآن، وأفضل الكلام بعد كلام اللَّه تعالى كلام رسوله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الواجب علينا في ذلك أن يحمل كل ماورد منه على محكم القرآن الذي لايحتمل التأويل، وعلى أدلة العقول المقررة، وعلى براهين الشرع المعلومة، وأصوله الظاهرة التي لانزاع فيها.(1/349)
وقد تقرر عند العلماء، وبدلالة العقل والسمع، أما دلالة العقل فإن التكليف دفع الضرر عن النفس، ودفع الضرر عن النفس واجب، وقد تعبد الإمام بالدعاء إلى اللَّه تعالى، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، [والنهي] عن المنكر حتى يأتيه اليقين، والغيبة تنافي ذلك كله فلو تركه لأخل بالواجب فأدَّى ذلك إلى الضرر العظيم الذي دفعه عن النفس واجب.
وأما دلالة السمع فقوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[التوبة:111]، والإمام رأس المجاهدين، وأساسهم، والنفوس ثمن الجنة، فكيف يستحق المبيع من لايسلم الثمن!!؟ والثمن هو النفوس، فمتى هربنا بها مخافة القتل الذي وعظنا اللَّه في أمره بقوله: ?قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً?[الأحزاب:16]، فنفى على من فرَّ فراره، وبيَّن له عواره، فلو فعلنا ذلك كنا بمنزلة من مطل الغريم وهو واجد، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((مطل الغنى ظلم)) وليس على الإمام والمأموم إلا القيام بأمر اللَّه، والجهاد في سبيل اللَّه فإن قتل فذلك بغيته، وإن عاش أحيا دين ربه.(1/350)