فعصمة الإمام لاتمنع من أن يستعمل من يخون ويعصي كما فعل الحسن بن علي عليهما السلام في تولية عبدالله بن العباس على الجيش فأسلم العسكر، واستأمن إلى معاوية، وأخذ المال في دين اللَّه تعالى فالتجويز لمعصية الأمير كما ترى لايمنع من وجوب امتثال أمره في ظاهر الحال، ولا تكليف على العباد فيما وراء الظاهر في أمور غيرهم.(1/341)
[شبهة رابعة في العصمة والرد عليها]
شبهة في العصمة
قالوا: إذا كان من حق الإمام التولية، والعزل، والأخذ، والمنع فلا بد من عصمته كالرسول، وكذلك في إقامة الحدود، وأخذ الأموال، وغير ذلك.
الكلام في ذلك: إن هذا استدلال بنفس المذهب، ومثل هذا لايصححه أهل العلم ؛ لأن العصمة لم تلزم في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأجل التولية، والعزل، والأخذ، والمنع، وإنما لزمت لكونه المبتدئ بالشريعة، والموجب لأمور مخالفة للعادة، ومالم يقطع على مغيبه لم يقطع بصحة ماجاء به فلذلك وجبت عصمته، ولزم أن يقع العلم لنا بعصمته لنكون قاطعين بصحة ماجاء به، بخلاف الإمام فهو لايأتينا بشيء من عنده إنما يأتينا بما قد علمنا [بصحة] أصله فلا حاجة لنا [إلا] إلى العلم بسلامة ظاهره، وذلك يغنينا عن عصمته، ولأن القاضي والوالي يولي، ويعزل، ويأخذ، ويمنع، وهو لايحتاج إلى العصمة بالإجماع منَّا ومن الإمامية ومن سائر الأمة.
وعلمنا بعصمة علي بن أبي طالب وولديه سلام اللَّه عليهم إنما هو لعلم اللَّه فيهم أظهره لنا بآية التطهير، ولهذا فإن فاطمة عليها السلام معصومة، وليس لها تولية، ولا عزل، ولا أخذ، ولا منع.
والعصمة لها بابٌ غير الإمامة فقد يجمعوا بين أمرين غير مجتمعين، وأما إقامة الحدود، وأخذ الأموال فهذا [مما] يفعله، وإلى الإمام وقاضيه بالإجماع ولا يفتقر إلى العصمة بالإتفاق فهذا تعليل خارج عن المراد، ولا يعتمده أهل الإنتقاد.(1/342)
[شبهة خامسة في العصمة والرد عليها]
شبهة في العصمة
قالوا: قد ثبت أن الإمام أفضل الأمة، ولايكون كذلك إلا وهو معصوم منصوص عليه.
الكلام في ذلك: إن الفرض متوجه في طلب أكثر الناس إصلاحاً، وأكرمهم أفعالاً، وأرجحهم حلماً، وأوسعهم علماً، وأسجحهم كرماً، وأكثرهم عبادة، وأظهرهم زهداً، وأشحهم ورعاً، وأربطهم جأشاً، وأوسطهم بيتاً، وأرفعهم صوتاً، وكل هذه أمور ترجع إلى الظاهر فأين موضع العصمة فيما هذا حاله؟ فإن كان المطلب هو الأكثر ثواباً، فأين الطريق الموصلة إلى هذا؟ وهل يدخل هذا تحت تكليفنا؟ ونحن لانتمكن من علمه إلا بإعلام اللَّه تعالى لنا، وقد انقطع الوحي بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإتفاق، وإنما قالت الإمامية: يناجي الإمام، وتكليف طلب الأفضل إنما هو على الأمة، فمن أين للأمة العلم؟ مع أنه لاطريق إليه، والله تعالى لايكلِّف العباد إلا مايدخل تحت الإمكان.
وإنما قلنا ذلك لأن الإنسان إذا سئل لم قلت بأن هذا أفضل؟ عدَّ محاسنه الظاهرة من الصلاة، والصيام، وأعمال البر، وأفعال الخير، ولو قيل لهم: هذا أكثر ثواباً من هذا، لقالوا: لايقطع على ذلك، ولكن أعماله الصالحة فيما نعلم أكثر، ولو قطع قاطع لاستجهله العقلاء لقطعه على غير بصيرة، وبغير برهان لأن مقادير الثواب لايعلمها إلا اللَّه تعالى.
وأما قولهم: إنه لايكون أفضل إلا وهو معصوم منصوص عليه، فقول متهافت ونظر غير ثابت ؛ لأنَّا نعلم أن الأمة تفرق بين الفاضل والمفضول، ولا يتمارى في ذلك أهل العقول، ولو نازعهم منازع في ذلك لعنفوه، ولو أنكر فضل الفاضل لجهلوه، ولو صرَّح بأني إنما أنكرت فضله لفقد العلم بعصمته والنصِّ عليه لضللوه.(1/343)
[شبهة لهم في العلم والرد عليها]
شبهة لهم في العلم
قالوا: يجب أن يكون أعلم الناس لأنه الغاية للمكلفين في الحوادث، وينقطع عنده التنازع.
الكلام في ذلك: إن تصحيح هذا القول يؤدي إلى سدِّ باب الإمامة، وبطلان اعتقادها، وما أدَّى إلى ذلك، قضي ببطلانه ؛ لأنه لايصحُّ لنا العلم بأنه أعلم مالم يختبر جميع العلماء، واختبار جميع العلماء متعذر علينا، ولو قدر على استحالته أنَّا اختبرنا جميع العلماء في بلدانهم وأقطارهم لكان في الجائز أن نصير من اختبرناه في الإبتداء أعلم لتراخي المدة ؛ لأن العلم يتزايد بالحرص والدراسة مع الذكاء والفطنة فلا يستقر لنا العلم بذلك، فلا يصح منا اعتقاد إمامة الإمام ؛ لأنا لانعتقد إمامته مالم نعلم أنه أعلم الناس، ولا يصح لنا العلم أنه أعلم الناس مالم نختبر علم الجميع، ولاسبيل إلى اختباره كما قدمنا، ويكفي في كونه غاية للمكلفين في الحوادث كونه من العلماء، فكل حادثة تنتهي إليه لابد من نظره فيها وإجابته عنها بما يجيب به أهل العلم، وذلك كاف في بابه.(1/344)
وأما إن التنازع ينقطع عنده فذلك قول لايستقيم ؛ لأن علياً عليه السلام معه علم الأوصياء بل أفضل علومهم ؛ لأنه وصي أفضل الأنبياء فلم ينقطع في أيامه النزاع في مسائل الشرع، بل في بعض مسائل أصول الدين نازعه القوم في الإمامة، ولم ينقطع خلافهم فيها إلى إلحاقه عليه السلام بربه سبحانه، وكذلك الحديث في مسائل الفرائض، وذلك موجود في كتب العلم لاينكره أحد من أهل المعرفة، وكذلك في سائر مسائل الفقه [النزاع] فيها بين علي عليه السلام وبين الصحابة واقع، وكذلك في مسائل العبادات، وهذا التأذين بحي على خير العمل هو رأيه عليه السلام، وإجماع ذريته وشيعته العمل به وحكايته عنه، فالنزاع فيه إلى الآن، بل [أكثر الأمة] على خلافه.
وكذلك الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، والتكبير خمساً على الجنائز، وغير ذلك مما يطول شرحه، فأين انقطاع النزاع؟ والحال ماذكرنا.(1/345)