وإن أريد ارتفاع المنكر رأساً فالعصمة لاتؤثر في ذلك ؛ لأن المعلوم أن المعاصي في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، [وعصر] علي عليه السلام، وولديه واقعة وهم معصومون بالإتفاق فكانت المعاصي في أيامهم ظاهرة، والمنكرات شاهرة [ممن نازعهم، وكانت في أوليائهم يقع بغير انقطاع سراً، ومخاتلة]، ولهذا أقاموا الحدود عليهم السلام، فلاحاجة والحال هذه إلى عصمة الإمام لأنه إنما يراد لإنفاذ أحكامٍ مقررة شرعية، وإقامة حدود معلومة جلية، وأخذ الأموال ممن وجبت عليه طوعاً، وكرهاً، وإقامة [الجمعة] [معه]، وكل هذه أمور ظاهرة مشهورة، إن وقع الإخلال بشيء منها لغير عذرٍ بطلت الإمامة فلا يحتاج الإمام والحال هذه إلى إمام ؛ لأنَّا قد بيَّنا أن المعصوم لايرفع المعاصي، وأكثر مايقع في بابه أن لايقع منه الكبائر، وترك ماذكرنا مع التمكن منه هو من الكبائر فإذا وقع علمنا بطلان إمامة الإمام، ورفعنا يده، فإن غالبنا ودافعنا وقهرنا كان حكمه حكم المتغلبين من ملوك الدنيا فلا حكم لفعله، ولا لقهره إن وقع، ولأن الإمامية مع تشددها في العصمة، وإثباتها جوزت على الأئمة عليهم السلام إرتكاب المحظورات تقية، والفتوى بغير الحق، والفتاوي المتناقضة في الحكم الواحد، ومداهنة الظالمين، والإستقامة لنفوذ أحكامهم عليه، وعلى أشياعهم، وهذه حال المعصومين عند الإمامية، والزيدية لايرون بعصمة الإمام، وأئمتهم كذلك لايدينون بذلك، وهم لاينفذون ظلم ظالم، ولا ينزلون على حكم غاشم، يرى قائمهم ملء الأرض جنوداً بشطر عينه، ويقدم إلى الموت بعد التيقن لموافاة حينه يلقى الرماح باسماً، والصفاح ضاحكاً.(1/336)


وذلك مشهور لايحتاج إلى برهان، ولا تعلم منه المعاصي سراً، ولا جهراً، فانظر إلى هذين الأمرين ما أعجبهما!! رووا المعاصي على أئمتهم كرَّمهم اللَّه عنها، وشرَّف أقدارهم عن حكايتهم فيهم، وقالوا: لابد من العصمة فيهم.
وهؤلاء أئمة الزيدية لاتطور المعاصي ديارهم، ولا تنكسر من مهابة الظالمين أبصارهم بل روعاتهم منهم كل يوم مجددة، وسيوفهم عليهم مجردة، وهم لهم شجىً في الحلوق لايسيغه السلسال، وقذى في العيون تصغر عنه الأجدال، فكيف يبعدون من هذه حاله عن الإمامة، وينفون عنه السلامة، ويوجبون عقد الإمامة، والنص بالزعامة لمن لم يدعها، ولا يلتزم أحكامها، ولا ينفذها بل نفذت أحكام الظالمين عليه في نفسه، وأشياعه، وأعوانه، وأتباعه، وأضافوا إليه تغيير الأحكام، ولبس الحلال بالحرام، قالوا: والتقية تجيز ذلك.(1/337)


[شبهة أخرى في العصمة والرد عليها]
شبهة في العصمة
إن أدلة الشرع من كتاب وسنة لاتدل بنفسها لاحتمالها، ولهذا وقع الخلاف في معناها فلا بد من معصوم لايخطئ.
الكلام في ذلك: إن أدلة الشرع السوي على وجهين: نصٌّ ظاهر جلي يدل بنفسه، ولا يحتمل التأويل، ونصٌّ فيه بعض الالتباس، فالإمامية تمنع من سلوك طريقة الاجتهاد.
فإن قالوا: يجلَّيه له نصٌّ محدد.
قلنا: فالوحي منقطع بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع.
وإن قالوا: بالنظر والإستنباط.
قلنا: فهو وغيره من العلماء في ذلك سواء.
فإن قالوا: هو يصيب المراد والأشبه عند اللَّه تعالى لعصمته.
قلنا: إن الأشبه لايقول به إلا بعض أهل العلم، والصواب خلافه لأن اللَّه تعالى لو أراد منَّا في الحادثة أشبه أو وجهاً هو مراده لوجب أن يبيِّنه، ومعلوم أنه لم يبيِّنه فثبت أنَّ مراده من المكلفين ما أدَّاهم اجتهادهم إليه إذا كانوا من أهل الاجتهاد ووفوا شروطه، إما إنَّه كان يجب أن يبينه فلأن التلبيس والتعمية لايجوزان عليه تعالى فالحكمة تمنع من ذلك، وإما أنه لم يبين فمعلوم ظاهر، ولا خلاف فيه فلا معنى لقولهم: لابد من معصوم لايخطئ ؛ لأن المجتهد عندنا كما بينا لايخطئ مراد اللَّه [تعالى] منه، والحكمة قضت بورود التكليف على هذه الصورة بعضه جلياً، وبعضه يفتقر إلى ضرب من الاستدلال، والقياس، والاجتهاد، وقد وقع، ولولا حسنه لما وقع لأن اللَّه تعالى حكيم فلا يقع [من] أفعاله إلا الحسن فيكفي في العلم بحسن الفعل من أفعال الحكيم تعالى وقوعه، ولأن المعصوم لايقطع الخلاف كما ذكرنا في علي عليه السلام.(1/338)


[شبهة ثالثة في العصمة والرد عليها]
شبهة في العصمة
قالوا: لو لم يكن معصوماً لجوزنا مواقعته للكبائر فلا يلزم الإنقياد له والمتابعة إلا بالقطع على مُغَيَّبه.
الكلام في ذلك: إن تجويز مواقعته للكبائر لايمنعنا من وجوب الإنقياد له ؛ لأنَّا نعلم [أن] عندنا وعندهم أن الأمراء، والقضاة لاتقطع على مغيبهم، ولا خلاف في وجوب الإنقياد لهم، بدليل أن من عصى أمر الإمام أعتقد العقلاء القائلون بإمامته أن العاصي قد أتى القبيح، واستحق العقوبة، ولايأتي بالقبيح في هذه الحال إلا وقد ترك الواجب، فإن واقع المعاصي سراً سقط فرض ذلك عنا، وكانت معصيته تخصُّه دوننا لأن اللَّه تعالى لايتعبدنا بما لانعلم.
[وإن] جاهر بالمعاصي سقطت عن الأمة فريضة طاعته، وأن يقع الإشكال في أمره، وقد قال [النبي] صلى الله عليه وآله وسلم منبهاً في أمور المتولين لأمور الأمة خاصة (لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق).(1/339)


فإن أمرنا بطاعة اللَّه فطاعات اللَّه تعالى لعلو الإسلام واستظهاره معلومة أطعناه، وإن أمرنا بالمعصية المعلومة لم يجب علينا طاعته، وإن أمرنا بأمر ظاهره طاعة، وباطنه معصية، ولا علم لنا بذلك كنَّا مطيعين لله تعالى بذلك الفعل، وكان عاصياً في الأمر لنا بذلك كما يجوز في الأمير والقاضي، ويجب علينا الإنقياد لهما، وكما يجب علينا الصلاة يوم الجمعة خلف الخطيب، وإن جوزنا أن يكون على غير طهارة أو لاينوي الصلاة، أو ينوي غير اللَّه تعالى بالعبادة فيكون كفراً، ومع ذلك يجب علينا الإقتداء به، ولأنه لايلزم أن ينكر من المعاصي إلا ماظهر، فأما مابطن فهو إلى اللَّه عز وجل، وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد المعصومين يُؤمِّر من الأمراء من تبدو منهم المعاصي فلا ينكر إلا ما ظهر وذلك معلوم لأهل المعرفة، ولهذا فإنه لما أمَّر خالداً على الجيش من حنين، وأمره أن يضرب في نواحي تهامة قتل أهل الغميصا من بني جذيمة بعد إظهارهم الإسلام، فبلغ الخبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع يديه إلى السماء، وقال: ((اللهم، إني أبرأ إليك مما فعله خالد))، وكذلك أمَّر الوليد بن عقبة لجبا بعض الصدقات فأتى وأخبره بمعصية القوم، حتى همَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بغزوهم، حتى نزل عليه الوحي من اللَّه تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ?[الحجرات:6]، فأمسك صلى الله عليه وآله وسلم وجاءه القوم بسمعهم وطاعتهم، وقالوا يارسول اللَّه: أنكرنا رجوع عاملك عنَّا بعد أن شارفنا فأتينا إليك [لنعلمك] بسمعنا وطاعتنا، إلى غير ذلك.(1/340)

68 / 73
ع
En
A+
A-