فإن تمم مع الغيبة فما الفرق بين غائب، وغائب، وهذا يعلم استحالته، ولكن احتملته القسمة، وإن تمم النقص بحضوره فالمعلوم خلافه ؛ لأنَّا نقول لهم: هل التكليف مستمر عليه مع هذا النقص، أو غير مستمر؟
فإن كان مستمراً فالنقص لاتأثير له، وإن كان غير مستمر فالمعلوم من دين الإسلام خلافه، وأن التكليف واجب على المتعبدين بكماله، والإمامية لاتنازع في ذلك.
فإن قال: إنما أتينا في بقاء النقص من قبل أنفسنا لإخافتنا الإمام.
قلنا لهم: أفبقي التكليف أم ارتفع؟
فإن قالوا: بارتفاعه فهذا خلاف دين الإسلام، وإن قالوا: ببقائه فالإلزام بحاله.
وإن قالوا بعصمته، فقد كفتنا عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه الذي شرع الشرع، وأخبرنا بوجوب الواجب فيه، وندب المندوب، والإستنان بالمسنون، وما مات رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم حتى كمل الدين، بدليل قوله تعالى: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا?[المائدة:3]، وهو تعالى لايخبر إلا بالحق، فإن أراد بانجبار النقص لايعصي المكلفون المتعبدون بطاعة اللَّه، فمعلوم أن أمم الأنبياء عليهم السلام عصت مع وجود الأنبياء فلم ينجبر النقص الذي هو زوال المعصية من المكلفين بدعاء المعصوم لهم إلى الدين، ولا تجاوزت العصمة في باب ارتفاع القبيح المعصوم على حده.
وأما حصول العلم بصحة ما تعبدنا به فقد كفتنا بذلك عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصار جميع ما تعبدنا به معلوم أعني أصول التكليف، حتى أن آتٍ لو أتانا يخبرنا بوجوب صلاة غير الخمس، أو زكاة غير المشروعة، أو صيام شهرٍ غير شهر رمضان، أو حجَّ بيت غير بيت اللَّه الحرام، لتبادر أهل الشرع الشريف إلى تكذيبه بل تكفيره من غير توقف في أمره ؛ لأن أصول الشرع صارت معلومة ضرورة والحمد لله.(1/316)


وأما فروعه فهي مع الإمامية، ومع غيرهم على سواء في الوقوع في الإختلاف فيها بل اختلاف الإمامية أهم، وخطبهم أطمَّ، وقد قدَّمنا طرفاً من ذلك في رسالتنا هذه، وهو دليل على غيره، ولم يقع للإمامية مزية لاختصاصهم بالإمام في رفع الإشكال عنهم، ولا سيما مع روايتهم أن أئمتهم افتوهم بفتاوى مختلفة في حادثة واحدة، وحال واحدة، وقالوا: هذا أسلم لكم ولنا، فكيف يتم مع هذا الحال بعض التكليف!!.
هذا والإمام المعصوم بزعمهم مشافه معلوم، فكيف مع غيبته التي ادعوها غيبة منقطعة بحيث لايقتص له أثر، ولا يعلم له خبر!!؟ فكيف يجبر النقص من هذه حاله، أو يتعلق تكليفنا في الحال به!!؟.
وأما العصمة فلا دليل عليها، ولاحاجة لنا في تكليفنا إليها ؛ لأن الإمام إنما يراد لتقرير شرع معلوم لايمكن الزيادة فيه، ولا النقصان منه، والملازمة للمكلفين إنما هو استقامتهم على ظاهر الشرع النبوي، وهذا يقع ممن ظاهره الصلاح من المسلمين، فكيف بأئمة السابقين، ولا يفتقر في ذلك إلى عصمة معلومة ؛ لأن ظاهره إن تغيَّر سقط عنَّا فرضه، ولم يلزمنا اتباعه، وإن استقام لنا ظاهره لزمنا طاعته، ووجبت علينا نصرته، وكفانا ذلك في إصلاح ظاهر الدين، وهذا الذي يحصل مع المعصوم من المكلفين فالحال واحد.
وأما قول الإمامية: لو لم يكن الإمام معصوماً للحقه من النقص مالحق المأموم، واحتاج إلى إمام.
فالكلام في ذلك: إن النقص لايخلو إما أن يكون ظاهراً، أو غير ظاهر، فإن كان ظاهراً فالتمام يقع من الأمة برفضه، كما أن تمام الأمة يقع عند الإمامية بحضور الإمام، وهيبته، وإن لم ينفذ أحكامه، ونهاية الأمر أن يلحق الأمة منه أحكام أفعالهم في الحدود، [و]غيرها فإن نقص الإمام أبلغ من هذا، وأعظم عنده من إقامة الحدود من الشدة، والهيبة، وإن كان غير ظاهر أعني نقص الإمام وعصيانه سقط عنَّا حكمه، ولم يلزمنا ضرورة فتأمل ذلك موفقاً.(1/317)


[شبهة وجود الإمام يجري مجرى البيان والرد عليها]
شبهة
قالوا: إن وجود الإمام يجري مجرى البيان فلا يستغنى عنه للفصل بينهم، وتعريفهم الحق.
الكلام في ذلك: إن البيان لايجوز تأخيره عن وقت الحاجة، والحاجة ملازمة لأوقات التكليف، فلما مرت الأعصار الكثيرة والإمام الذي ادعوا إمامته ووجوده غائب، علمنا أنه لاينزل منزلة البيان ؛ لأن اللَّه تعالى يجب عليه في الحكمة إزاحة علة المكلفين، فلما لم يحصل الإمام علمنا أنه لايجري مجرى البيان، ولأن البيان لايخلو إما أن يكون في هذه الأحكام الواقعة، أو في غيرها.
فإن كان فيها فالله تعالى قد بيَّنها على أبلغ الوجوه بأدلة العقل والسمع بحيث لم تبقَ علة لأحد [من] المكلفين، ولا عذر لأحد من المتعبدين.
وإن كان يبين لنا غير ماعلمنا، فتكليف مالم يصلنا ساقط عنَّا، فكيف يجب التبيين لما لم يلزم به التكليف، ولا هو من المعلوم !!؟
وأما الفصل بين المكلفين فلم يقع ذلك، بل لم يقع الفصل بين خاصته من الإمامية، بل الإختلاف بينهم واقع على أبلغ الوجوه كما بيَّنا طرفاً منه في الفروع، والأصول.
فإن قيل: إن ترك البيان إنما وقع لمنعهم الإمام بالخوف عن التبيين.
قلنا: وإن كان كذلك فلا يجوز أن يتبعد اللَّه تعالى العباد بأمرٍ مجمل، أو ملتبس، ويتعلق بيانه بشخص، ولا يُحضر اللَّه تعالى ذلك الشخص ويعصمه، فلا مخافة أعظم مما كان على نبي اللَّه [محمد] صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى الأنبياء من قبله سلام اللَّه عليهم، ورضوانه، فلما تعلق التكليف ببيانهم عصمهم اللَّه تعالى من كيد العباد حتى بلغوا الرسالات، وألزموا المكلفين الحجة.(1/318)


وأقربهم إلينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنه قام بأمر ينكره الخلق كلهم، وتعادته لأجله، ورَمَتْهُ الأمة عن قوس واحدة بالعداوة فصدع بأمر اللَّه تعالى وبيَّن، وصرف اللَّه شر العباد عنه، فكيف والإسلام قد ضرب بجرانه، وألقى جراميره، وصار أتباع العترة كثير، وأشياعهم جم غفير، وانتفاء حمى الدول الظالمة عنهم.
وهؤلاء الإمامية اليوم خلق لايحصى عددهم، والظاهر من العترة عليهم السلام أنهم لاينازعون القائم أمره بل ينصره المجاهد، ويتولاه القاعد، ولا يفرقون بين كون الإمام حسنياً، أو حسينياً إذا كان من الذرية الزكية، ولأن ممالك كثيرة قد استقر فيها أمر القائم من الذرية الطيبة من ولد الحسن والحسين عليهم السلام فبينوا الأحكام، وحموا حوز الإسلام، وعندهم الغائب المنتظر هو المهدي عليه السلام، ومعه راية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم التي أهداها جبريل لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وهي لاتردُّ، ولا تصدُّ فما المانع أن يظهر، ويبيِّن، وينفذ أحكامه، ويقع البيان، ولا يخشى سطوة الظالمين مع ذلك، ولأنَّا قد بيَّنا أن من الذرية من نفذ أمره في كثير من البلدان، وحمى جانبه بالضرب والطعان، من ذلك الداعيان الحسنيان: الحسن، ومحمد ابنا زيد رضوان الله عليهما فإنهما ملكا بطبرستان، وبعض الديلم، وقطراً واسعاً من خراسان، واستقام الأمر كذلك على رغم الظالمين قدر أربعين سنة، والناصر الأطروش عليه السلام غلب على الديلم، والجيل، وطبرستان، وبعض خراسان ما يقرب من عشرين سنة، وما غلبه على ما في يده غالب حتى أتاه أمر اللَّه سبحانه فاختار له ما عنده، وقد رضي عمله، وأشجى الظالمين، وبثت العلوم الجمة الموجودة إلى الآن في أيدي أشياعه، وأتباعه.(1/319)


فهلا كان الإمام الذي تكليف الأمة منوط به، وبيان الأحكام الواجبة عليهم لايوجد إلا عنده بمنزلة واحد من هؤلاء، وكذلك الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام فإنه قام في أرض اليمن، وطرد جنود المسودة، وأمراء الدولة العباسية مدة طويلة إلى ثماني عشرة سنة، وكتبت السكة، والطراز باسمه، وانتشر في الآفاق أمره، وله العلوم الجمة، ثم قام بعده ولداه، ثم توارث الأمر في قطر واسع من إقليم اليمن أولاده، وجماعة من ولد القاسم بن إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا سنة عشر وستمائة، وقيام الهادي عليه السلام كان سنة اثنتين وثمانين ومائتين، ما غلب ولد القاسم بن إبراهيم عليه السلام على هذا القطر غالب، ولا سلب ملكهم منه سالب.
فهلا كان إمام الإمامية بهذه المنزلة، وكانت له هذه القوة، ولا سيما وهو بمنزلة البيان كما ذكروا، ولأن القاسم بن إبراهيم عليه السلام كانت بيعته قد انعقدت على كثير من الناس في أكثر البلدان، وصحَّ لأرباب سرير الملك ببغداد أمره، ولم يخف عنهم خبره، فلما لم يتأت له القيام بالأمر لزم جبل الرس، ودعاؤه إلى اللَّه مستقيم، وعلومه منتشرة في الآفاق، والمسائل ترد إليه، والأجوبة تصدر عنه لكل سائل، والعباسية تحاوله بكل وجه فما تمكنوا من استئصاله، ولا اغتياله، وراموا موادعته، وبذلوا له الأموال الجليلة فكره ذلك، ورد المال بعد أن وصل إليه [الجزوى]، فلامه أهله في ذلك، فقال عليه السلام:
تقول التي أنا ردء لها .... وقى للحوادث دون الردى
ألست ترى المال منهله .... محارم أفواهها باللهى
فقلت لها وهي لوامَّةٌ .... وفي عيشها لو صحت ماكفى
كفاف امرئٍ قانع قوته .... ومن يرض بالقوت نال الغنى
فإني ومارمت من نيله .... بذلك حب الغنى ما ازدهى
كذي الداء هاجت له شهوة .... فخاف عواقبها فاحتمى(1/320)

64 / 73
ع
En
A+
A-