فهذا كما ترى يخالف ما تقدم، وهو خلاف مذهب الإمامية، وما حققوا روايته عن الأئمة عليهم السلام، ولا وجه لهذا يحملونه عليه إلا التقية، فقد بينَّا أن هذا يأتي على مذهبهم من قواعده ؛ لأنه موافق لأقوال العامة في كثير من المواضع، ولا يوثق بشيء من المذاهب ولا الأقوال، ولا مخلص لهم من ذلك إلا الرجوع إلى مذهب القائلين بالإجتهاد، وتسويغ أنواع القياس، وليس من غرضنا تبيين الصحيح من الأقوال من السقيم فنحتج بصحة ما نذهب إليه، وإنما غرضنا أن نبيَّن مناقضتهم في الأقوال، ونبيَّن ما يتعلق بمذاهبهم من الإختلال من ردهم لأخبار الآحاد، وزعمهم أن أخبارهم متواترة، ومذاهبهم أن أقوال الأئمة توقيف لامساغ للإجتهاد فيها إلى غير ذلك.
وروى محمد بن الحسن الصفار، عن عبدالله بن المنبه، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: جلست أتوضأ وأقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم حين ابتدأت في الوضوء فقال: ((تمضمض واستنشق واستنثر)) ثم غسلت وجهي ثلاثاً، فقال: ((يجزيك من ذلك المرتين)) قال: فغسلت ذراعي ومسحت برأسي مرتين، فقال: ((يجزيك من ذلك المرة)) وغسلت قدمي، فقال: ((ياعلي، خلل بين الأصابع لاتخلل بالنار)).
فهذا خبر ينقض ما تقدم، ولايجدون لصرفه وجهاً ولا مذهباً، لأنه صريح فيما ذهبوا إلى خلافه ورووا فيه الآثار، وأن المصلي لاتقبل صلاته إذا غسل قدميه، وفيه أخبار كثيرة رووها أضربنا عن ذكرها مخافة التطويل، وذكرنا ما تلزم به الأحكام، ويصح [به] الإستدلال، وإنما يتقون من برهان ذلك بالتقية، وقد بيَّنا أن ذلك يفتح عليهم من الأبواب مالا يمكنهم سدُّه، ولا يتهيأ لهم ردُّه، وهذا خبرٌ لا يمكنهم دفعه لأن رواته من رجال الإمامية، وأسندوه إلى من لم تعرف منه التقية زيد بن علي عليه السلام المضيق على هشام وسيع مجلسه، والمنافر له في بحبوحة سلطانه، وذلك ثابت فيما رويناه.(1/296)


وروى في باب الإغتسال: عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بعض رجاله، عن أبي عبدالله قال: الغسل في سبعة عشر موطناً منها الفرض ثلاث فقلت: جعلت فداك!! ما الفرض منها؟ قال: غسل الجنابة، وغسل من غسل ميتاً، والغسل للإحرام.
وروى عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن الحسين بن الحسن بن إبَّان، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن عروة، عن عبد الحميد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: الغسل من الجنابة، وغسل يوم الجمعة، والعيدين، ويوم عرفة، وثلاث ليال في شهر رمضان، وحين تدخل الحرم، وإذا أردت دخول البيت الحرام، وإذا أردت دخول مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن غسل الميت.
ففي الحديث الأول ثلاثة، وفي هذا الحديث ما ترى، ولم يفصَّل الفريضة من النافلة، وكلامه عليه السلام كلام فتوى وبيان، فأين الطريق إلى الفرق بين الفرض والنفل؟ وهل هذا إلا تغاير بالزيادة؟ وبعض المتقدم والمتأخر لايرى بوجوب الغسل، وقد جمع في لفظ الوجوب بين الجميع بإدخال الألف واللام المستغرقان للجنس، الموجبان الشركة في الحكم.
وروى عن سعيد بن عبدالله، عن علي بن خالد، عن محمد بن الوليد، عن حماد بن عثمان، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: سمعته يقول: ليس على النفساء غسل في السفر.(1/297)


وهذا كما ترى مخالف لأصول الإمامية، ورواياتهم، واعتلال من يعتل بعدمها للماء لايخلص ؛ لأن حكم العدم مستوٍ في الحضر والسفر، وقد يكون الماء في السفر في بعض الحالات أمكن منه في الحضر، وقد ورد قوله عليه السلام بنفي الغسل عن النفساء، ولا غسل عليها إلا الواجب فنفى الواجب في ظاهر الخبر، وهو متكلم للبيان، وموجب بلفظه على من استفتاه إلا ماخصَّه بلفظ ندب أو إباحة، فكيف تستقيم رواياتهم والحال هذه !! لأن تعليلهم بعدم الماء يقع فيه، لقائل أن يقول: إذا سئل عن وجوب الغسل على النفساء يقول: ليس على النفساء غسل في الحضر، فإذا سئل عن معنى ذلك؟ قال: إذا عدمت الماء، أو تعذر عليها استعماله بوجه من الوجوه.
وروى عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن جرير، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: من غسَّل ميتاً فليغتسل، قال: وإن مسَّه ما دام حاراً لاغسل عليه، وإذا برد ثم مسَّه فليغتسل، قلت: فمن أدخله القبر؟ قال: لاغسل عليه، إنما يمسُّ الثياب، وهذه ألفاظ الوجوب وعليه للإيجاب، وفيه أخبار كثيرة رووها، ولكنَّا نكتفي بخبر واحد، وإذا قال شارع الشرع أو معلمه: عليك كذا وكذا، أفاد الإيجاب عرفاً ولغةً.
وروى عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي بحران، عن رجل حدَّثه، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب، والثاني ميت، والآخر على غير وضوء، وحضرت الصلاة، ومعهم من الماء ما يكفي أحدهم، من يأخذ الماء، ويغتسل، وكيف يصنعون؟ قال: يغتسل الجنب، ويدفن الميت، ويتيمم الذي على غير وضوء، [لأن الغسل من الجنابة وفريضة] وغسل الميت سنة، والتيمم للآخر جائز.(1/298)


وروى عن الحسين بن النضر الأرمني، قال: سألت أبا الحسن الرضى عن القوم يكونون في السفر فيموت منهم ميت، ومعه جنب، ومعهم ماء قليل قدر مايكفي أحدهم أيهما يبدأ به؟ قال: يغتسل الجنب، ويترك الميت لأن هذا فريضة، وهذا سنة.
فهذا تصريح، لأن الفرق بين الفريضة والسنة معلوم لأهل العلم، ولا سيما إذا قال: هذا فريضة، وهذا سنة ؛ لأنه لو استوى في الوجوب لما فرَّق هذا الفرق، وقولهم علم وجوبه من السنة لايخلص من وجه التعليل لأنه أمر بغسل أحدهما، وترك الآخر لأنه سنة، وليس هذا حكم الواجبات عند أهل العلم.
وقد رووا أيضاً إلى علي بن محمد، عن محمد بن علي، عن بعض رجاله، عن أبي عبدالله قال: قلت له: الجنب، والميت يتفقان في مكان لايكون الماء إلا بقدر ما يكتفي به أحدهما أيهما أولى أن يجعل الماء له؟ قال: يتيمم الجنب، ويُغسل الميت بالماء.
فهذا كما ترى يناقض ما تقدم من أن الجنب يغتسل، وقال في هذا الموضع يتيمم، ولا مخلص لهم من هذا.
وروى عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن الحسين بن يحيى اللؤلؤي، عن أحمد بن محمد، عن سعيد بن أبي خلف، قال: سمعت أبا عبدالله يقول: الغسل في أربعة عشر موضعاً واحدة فريضة، والأخرى سنة، فكيف التخلص من هذا بتأويل يصحُّ عند أهل العلم!!!.
ولما ذكر سنن الغسل قال: غسل الجمعة سنة مؤكدة على الرجال والنساء، روي ذلك عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبدالله عليه السلام.
وروى عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن الحسين بن الحسن بن إبَّان، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن ابن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: الغسل من الجنابة، ويوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة عند زوال الشمس، ومن غسَّل ميتاً، وحين يحرم، ودخول مكة، والمدينة، ودخول الكعبة، وغسل الزيارة، ولثلاث ليال في شهر رمضان.(1/299)


وروى عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبدالله بن المغيرة، عن أبي الحسن الرضى عليه السلام قال: سألته عن الغسل يوم الجمعة؟ قال: واجب على كل ذكر وأنثى، من حر أو عبد.
وروى عن محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن أبي عبدالله قال: سألت الرضى عليه السلام عن غسل يوم الجمعة؟ فقال: واجب على كل ذكر وأنثى، من عبدٍ وحر.
وروى عن محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن سيف، عن أبيه سيف بن عميرة، عن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن الأول عليه السلام كيف صار غسل الجمعة واجباً؟ قال: إن اللَّه تعالى أتمَّ صلاة الفريضة بصلاة النافلة، وأتمَّ صيام الفريضة بصيام النافلة، وأتمَّ صوم [النافلة] بغسل الجمعة، ما كان ذلك من سهو أو تقصير أو نقصان.
فهذا كما ترى يوجب غسل الجمعة بلفظ الإيجاب الصريح الذي لا يحتمل التأويل، ويوجب صلاة النافلة وصوم النافلة من طريق التعليل، وهذا ما لاتقول به الإمامية، ولا أحد من الأمة، فإن أرادوا تأويل أقوال الأئمة عليهم السلام بما لايحتمله ظاهر اللفظ بحقيقته ولا بمجازه، وهذا يؤدي إلى أن يتأول عليهم أقوال الأئمة عليهم السلام بما لايلائم مقتضى الألفاظ لغةً ولا عرفاً ولا شرعاً، فيتأول أقوالهم كلها على ما ينافيها ويناقضها فلا يستقر لهم قول ولا يستمر لهم حول، لأن التناقض فيها ظاهر، فلا ينكر ذلك إلا مكابر.
روى عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أخيه الحسين، عن علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الغسل في الجمعة، والأضحى، والفطر؟ قال: سنة، وليس بفرض.(1/300)

60 / 73
ع
En
A+
A-