وكيف يشبه الباري بخلقه في قوله في سن ابن ثلاثين، وترك يده بين ثدييه، ما هذا بملائم لما عليه أهل التحقيق إنما يده قدرته، ونعمته، إن الجوارح تستحيل عليه لأنها مركبة مصنوعة فكان لابد لها من صانع، وإنما أردنا أن نذكر هذه الأمور تنبيهاً للغافل، وتبصرة للجاهل، وتذكرة للعاقل، فإن علم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم منيع الجوانب، منزه عن الشوائب، تزول الجبال، ولا يزول، ويشهد به محكم الكتاب، وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأدلة العقول، فهو نورٌ يستضاء به في ظلم الشبهات، وبرهانٌ يتخلص به من حبائل المشكلات، ودواء يستشفى به من معضل الآفات، وما لا يندمل من الجراحات، فكيف يكون بيانهم تعمية، ودينهم تورية، هذا ما تأباه العقول، وكيف وقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب اللَّه، وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) فرموا كتاب اللَّه تعالى بالتحريف، والزيادة والنقصان، وعترة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في التقية بغير الحق، والتلبيس، والمناقضة، والإدهان، فلو أن عدُوَهم جهد في ذمهم، وفي انتقاص كتاب ربهم ما زاد على هذا المقدار، ولا رمى بمثل هذا العار، فنسأل اللَّه تعالى توفيقاً يثبت أقدامنا من الدحض، ويعصم قلوبنا من المرض، والصلاة على محمد وآله.(1/266)
[إجتهاد الإمامية في التلفيق بين الأقوال]
ولما ظهر ما قدمنا ذكره بين الإمامية ظهوراً تعذر معه كتمانه فزع أهل العلم منهم إلى ماعابوا من حمل بعض الأمور على بعضٍ بوجه من الإجتهاد للتلفيق بين الأقوال كما يفعله أهل العلم السالكين مسلك القياس، والإجتهاد المعتمدين على الترجيح، والإنتقاد.
[ونحن نذكر] طرفاً من ذلك منبهاً على ما وراءه، ولسنا نتمكن في هذا المختصر من ذكر جميع ما جرى في هذا الباب، ولا ما ذكره شيوخ تلك المقالة، وعلماؤها [من الأسباب]، والقليل يدل على الكثير، وضوء البارق يشير بالنو المطير.(1/267)
[الطوسي وتهذيب الأحكام]
فنذكر من ذلك ما ذكر الشيخ الجليل وهو من رؤوس أهل المقالة، والجميع لايجهلون حاله، لأنه في طبقته كالواسطة في العقد، والدرة في التاج، وهو: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي قال في كتابه الذي وسمه [تهذيب الأحكام] ذكر فيه بعد التحميد ما أنا ذاكره إن شاء اللَّه تعالى لأنه رام فيه التلفيق بما لايصح له، وعَقَبَ ذلك بأن الإختلاف في الفروع لايخل بالأصول، وهو لايرى به، ولا أهل مقالته لأن عندهم أن النص وارد في كل حادثة حتى قالوا: في الجفرين الأحمر، والأبيض نصف جلدة، وربع جلدة.
وقد أجبناهم بأن هذا إن كان مما تعبدنا اللَّه تعالى به وجَبَ عليه إيصاله إلينا، وإن كان مما لم يتعبدنا به سَقَط فرضُه عنا.
قال: [ذاكرني بعض الأصدقاء أيده اللَّه ممن أوجب حقه بأحاديث أصحابنا أيدهم اللَّه، ورحم السلف منهم، وما وقع فيها من الإختلاف، والتباين، والمنافاة، والتضاد حتى لايكاد يتفق خبرٌ إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلَم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه]، فهذا منه كما ترى إعتراف بما قلنا وحكينا عن القوم، فلو لم يزد على هذا القدر لكفى في اختلاف روايات القوم عن أئمة الهدى عليهم السلام].
قال: [حتى جعل مخالفونا ذلك أكبر المطاعن على مذاهبنا، وتطرقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا، وذكروا إنه لم يزل شيوخكم السلف والخلف، يطعنون على مخالفيهم بالإختلاف، والذي يدينون اللَّه تعالى[به]، ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع، ويذكرون إن هذا مما لايجوز أن يتعبد به الحكيم، ولا يتيح العمل به الحليم، وقد وجدناكم أشد اختلافاً من مخالفيكم، وأكثر تبايناً من مباينيكم، ووجود هذا الإختلاف منكم مع اعتقادكم ببطلان ذلك دليل على فساد الأصل حتىدخل على جماعة ممن ليس له قوة في العلم، ولا بصيرة بوجوه النظر، ومعاني الألفاظ [تنبهة]، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك، وعجز عن الشبهة فيه.(1/268)
سمعت شيخنا أبا عبدالله، يذكر أن أبا الحسن الهاروني العلوي كان يعتقد الحق، ويدين بالإمامة فرجع عنها لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث، وترك المذهب [ودان بغيره] لما لم يتبين له وجوه المعاني فيها، وهذا يدل على أنه حصَّل فيه على غير بصيرة، واعتقد المذهب من جهة التقليد لأن الإختلاف في الفروع لايوجب ترك ما يثبت بالأدلة من الأصول، وذكر أنه كان الأمر على هذه الجملة، و[الإشتغال بشرح كتاب يحتوي على تأويل الأخبار المختلفة، والأحاديث المتنافية من أعظم المهمات في الدين، ومن أقرب القربات إلى اللَّه تعالى]، وذكر أنه يتولى العناية في تبيين الأحاديث التي تضمنتها رسالة الشيخ ابي عبدالله الموسومة [بالمقنعة] لأنها شافية في معناها، كافية في أكثر ما نحتاج إليه من أحكام الشريعة.
واعلم أنا لانتمكن من إيراد كلما يرد في هذا الباب، ولكنا نذكر اليسير من الكثير كما قدمنا ذكره، ونبدأ بباب باب من أول الكتاب إلى أن تقع الغنية بما يقع به الإستدلال:(1/269)
[نماذج من رواياتهم في الفقه]
قال محمد بن الحسن: أخبرني الشيخ أيده اللَّه، عن أخيه محمد، عن أبيه، عن الحسن بن الحسن، عن إبَّان، عن الحسين بن سعيد، عن عمر بن عيسى، عن سماعة قال: سألت أبا عبدالله عن الرجل ينام وهو ساجد؟ قال: ينصرف ويتوضأ.
وبهذا الإسناد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد، عن عمر بن أذينه، وجرير بن زرارة، عن أحدهما قال: لاينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك، أو النوم.
وأخبرني الشيخ أيده اللَّه، عن أحمد بن محمد بن الحسين بن الوليد، عن أبيه، عن محمد بن يحيى العطار، وأحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران بن موسى، عن الحسن بن علي بن النعمان، عن أبيه، عن عبد الحميد بن عواض، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: سمعته يقول: من نام وهو راكع، أو ساجد، أو ماشٍ على أي الحالات فعليه الوضوء.
وروى بإسناده، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عُمير، عن إسحاق بن عبدالله الأشعري، عن أبي عبدالله قال: لاينقض الوضوء إلا حدَث، والنوم حدَث.
وروى سعيد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن بكر بن أبي بكر الحضرمي، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام هل ينام الرجل وهو جالس؟ قال: كان أبي يقول: إذا نام الرجل وهو جالس مجتمع فليس عليه وضوء.
وروى محمد بن علي بن محبوب، عن العباس، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن عذافر، عن عبيد اللَّه بن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام في الرجل هل ينتقض وضوءه إذا نام وهو جالس؟ قال: إن كان يوم الجُمعة في المسجد فلا وضوء عليه، وذلك أنه في حال ضرورة.(1/270)