وأما قولهم: يكون منصوصاً عليه فقد قدَّمنا الدليل على بطلان دعواهم هذه بأنه لادليل عليها، لأن من حق الدليل أن يكون معلوماً لكل من تعبَّد بعلمه، ولا أحد من الخلائق يدعي العلم بما ذهبوا إليه من النص على أئمتهم إلا هم، وهم لايقولون إن التعبد بذلك يخصهم فنعذرهم ألا ترى أن الدليل على الباري تعالى العالم، وما فيه من آثار الصنعة، ودلالة الحدث، واستوى في العلم به المؤمن والكافر، وإن اختلفوا في مدلوله لإهمالهم النظر على الوجه الصحيح فكان يجب أن تكون النصوص معلومة، وإن جاز أن يختلف المكلفون في وجه دلالتها كما قلنا في النص على أمير المؤمنين عليه السلام لم يختلفوا في وقوعه، وإن اختلفوا في معنى الاستدلال به، فلما لم يوجد ماذهبوا إليه على الوجه الذي ذكرناه علمنا بطلانه كما لانصدق من ادعى وجوب صلاةٍ سادسة، وحج بيتٍ آخر غير بيت مكة حَرَسها اللَّه، وقد قدمنا الكلام في بطلان ما ذهبوا إليه من دعوى ظهور المعجز على الأئمة عليهم السلام لأن شرائط المعجز أن يكون خارقاً للعادة من فعل اللَّه تعالى، أو جارياً مجرى فعله مطابقاً للدعوى، حاصلاً عقيبها لأن يكون لها تعلق بالدعوى، وقد عارضونا بما نجوزه من الكرامات، وليس الكرامة من المعجز في شيء، لأن الكرامة تظهر لأولياء اللَّه تعالى من غير دعوى، ولو ادعاها مدع قبل حصولها لاستحق اللعنة، ولم يستحق الكرامة، ومن ذكر شيئاً من المستقبل، وحصوله من ذرية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فإنما أسنده إلى علي عليه السلام، وأخذه علي من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو شائع في أفاضل ولد الحسن، وولد الحسين عليهم السلام [فما] ادُّعي لأحد الفريقين أمكن ادعا مثله للآخر، ولو رمنا ذلك لطال الشرح، ولكنا نذكر منه ما يدل على غيره.(1/236)
من ذلك ما انتهت به روايتنا إلى محمد بن عبدالله عليه السلام أنه وقف على مقتلهِ في المدينة، وأتى رجل فقال: ما أوقفك ههنا؟ فقال: ههنا تقتل النفس الزكية، والله لوددت أنها قد قتلت، ولو كنت أنا هُوَ، قال: فوقفت، فإذا جعفر بن محمد عليه السلام فقال: ما أوقفك ها هنا؟ فقلت: قال ابن عمك محمد بن عبد اللَّه [عليه السلام] [قال]: كذا، وكذا، قال: صدق هما نفسان نفس تقتل ههنا، ونفس تقتل بين الركن والمقام.
وكذلك أبوه عبدالله بن الحسن لما دخل رياح بن عثمان المدينة والياً، وكان عبدالله بن الحسن محبوساً في القبة بدار مروان، فقال رياح لبعض أصحابه: اذهب بنا لنقف على هذا الشيخ، قال: فلما وقفنا على رأسه، قال رياح بن عثمان: أعلم أن أمير المؤمنين ما ولاني لقرابة بيني وبينه، ولا لاصطناع مني له، ولكنه عرف غلظتي عليك، والله لئن لم تدلني على ابنيك لأذهبنَّ نفسك، قال: فرفع عبدالله إليه بصره غير مكترث من قوله، وقال: والله إنك لأُزيرِقُ قيس الذي تُجر فيها كما تُجر الشاة فتذبح، قال: فبردت والله يد رياح في يدي، ورجع يجر رجليه ما رد عليه كلمة فقلت له: ويلك!! ما هذا إنما هذا كلام الناس، قال: اسكت والله ما قال هؤلاء القوم قولاً إلا كان كما قالوا، وما قال إلا ما سمع فكان كما قال.
وكما قال راوي سيرة الهادي عليه السلام، من أنه لما وُلد جيء به إلى جده القاسم بن إبراهيم عليه السلام فحنَّكه، وأذَّن في أذنه، وقال لأبيه: بمن سميته؟ قال: سميته يحيى، قال: هو والله يحيى صاحب اليمن فاحتفظ به، [وليس] هذا من علم الغيب في شيء، وأمثال هذا كثير لو أردنا ذكره، ولكن خير الحديث ما قل ودل، والحمد لله، وكل وجه ذكرته الإمامية، واحتجت به لصحة قولها قد ذكرناه وأجبنا عنه وبيَّناه.(1/237)
[ذكر أقوال الفرق في الإمامة والرد عليها]
وقد ثبت أن الأمة اختلفت في الإمامة على وجوه نحن نذكر جُمَلَها، وإن اختلفوا في فروع لهم فالأصل هو الذي [بني] عليه الفرع في ذلك كله:
فرقة منهم قالت: إن الإمامة في جميع المكلفين عرَبهم، وعجمهم.
وفرقة قالت: إن الأئمة من قريش، واحتجوا بحديث رووه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الأئمة من قريش)) وهؤلاء المعتزلة، ومن قال قولهم.
وفرقة قالت: إن الإمامة في ولد الحسن والحسين [في] ذرية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وهؤلاء هم الزيدية، ومن قال بقولهم.
وفرقة قالوا: إن الإمامة في عدد مخصوص منصوص عليه من ولد الحسين بن علي عليهم السلام، ولا عمدة لهم في أمره إلا النص، ولو وجد النص في غيرهم قالوا بإمامتهم، ولو عدم النص فيهم لنفوا إمامتهم فإذاً هؤلاء لايعتبرون منصباً، وإنما معولهم على النص لاغير، وقد بيَّنا بطلان قول الإمامية لأن وضع الكتاب في الأصل كان عليهم فلزمت البداية بهم، ولأنهم معدودون في فرق الشيعة فكان الإهتمام بهم أولى لأنهم من الخاص، والعناية بالخاص أولى من العناية بالعام، ولكنهم خصصوا الخصوص فأداهم تخصيصهم إلى العموم فدخلوا فخرجوا، كانوا شيعة ففرقوا بين العترة فتدرعوا بأدراع النواصب، ولبسوا أثواب المحارب، ونادوا هل من مضارب، فجاءوا بعكس الواجب.(1/238)
[إبطال كلام الخوارج والمعتزلة في الإمامة]
ولا بد من الكلام على إبطال مذهب الخوارج والمعتزلة: فمتى تمَّ ما ذكرنا من ذلك لم يبق إلا مذهب الزيدية فلو قلنا بإبطال قولهم لخرج الحق من أيدي الأمة، وذلك لايجوز.
أما الذي يدل على بطلان قول من جوزوا الإمامة في الناس كلهم: فإنَّا [نطالبه] بالدليل لأن الإمامة من أركان الدين العظيمة، ولا تثبت إلا بدليل شرعي لأنها شرعية، ولا دليل في الشرع على جوازها في الناس كلهم، ومن اعتبر المنصب لم يذهب إلا إلى ما ذكرنا.
فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه أمر بطاعة السلطان وإن كان عبداً حبشياً)).
[قلنا]: هذا من أخبار الآحاد فلا يعتمد عليه في أصول الدين، وما يجب المصير فيه إلى العلم، ولأن السلطان ليس من الإمام في شيء لأن السلطان من له قدرة على الأمور لا أنه الإمام فيحمل على الأمراء، ولفظ العبد قد يطلق على من طرأ عليه الرق في بعض الحالات، أو على آبائه وإن كان حُراً في الحال، كما روى أن علياً عليه السلام قال لشريح في مسئلة: [ماتقول] فيها أيها العبد الأبطن، ولا شك في وجوب طاعة الأمراء، قال بعضهم: الدليل على ذلك قوله تعالى: ?وسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ?[آل عمران:133].
قالوا: والإمامة أرفع منازل الطاعة فلزمت المسابقة إليها.(1/239)
قلنا: عن هذا أجوبة، أحدها: أن هذا العموم خصَّته آية الإختيار، وهي قوله: ?وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ?[الحج:87]، فالجهاد أمر يختص بالإمامة فكان خاصاً في ولد إبراهيم عليه السلام، ومن قال بذلك لم يعد ولد الحسن والحسين عليهم السلام فكان السياق في باقي الطاعات، وخص الجهاد أهله، ولأن قوله تعالى: ?سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ?[الحديد:21]، أمر بالطاعات، وهو عام للرجال، والنساء، وأهل الآفات، والسالمين، والمماليك، والأحرار، والأمة مجمعة على أن الإمامة لاتصح للمملوك، ولا للمرأة، ولا لذي الآفة المانعة من التصرف، فإن قال بخصوص هؤلاء فقد مال إلى التخصيص.
[و]قلنا: هذا خاص لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الدليل قد قام بصحة الإمامة فيهم، ولم يقم دليل على غيرهم، ومن حق المسابقة أن تكون إلى فعل ما أمر به المكلف من الطاعات، وهذا الأمر الذي هو فرض الإمامة لم يؤمر بها الكل بالإجماع، ولا قام دليل على جوازها في الناس كلهم فبقي الكل تحت حكم الحظر لأن الإمامة تقوم بأمور يحظرها العقل من القطع، والقتل، والجلد، والصلب، وأخذ الأموال، والسبي إلى غير ذلك مما يمنع منه الشرع، فلا يجوز إلا بدليل شرعي، ولا دليل في الشرع على جوازها في الناس كلهم.
فإن قالوا: قد قال عمر: لو كان سالم مولى حذيفة حياً لما خالجني فيه الشكوك.
قلنا: الجواب عن ذلك أن هذا رأي عمر، وليس رأيه حجة.
فإن قال: إن الحجة سكوت الجماعة عن النكير.
قلنا: إن للسكوت وجهاً يصرف إليه، وهو ما تقرر من أمر عمر واستمراره على الشدة على من خالفه، حتى كان بعض ذلك التقدم على الإمام المعصوم المنصوص عليه، فكيف يصح الإنكار فيما يقع منه بعد ذلك؟(1/240)