وقد روينا قليلاً من كثير من أخبارهم عليهم السلام ليستدل به العاقل على أن هذه الرافضة الداعية للتشيع، المفرقة بين الذرية الزكية لم تسلك مسلك أهل البيت، ولا دانت بدينهم، [و]لا دين من انتسبت إليه، ولا دين من رفضته، وأنها أضافت إلى الرفض النصب، فصارت رافضة ناصبة مخالفة لدين آل محمد صلوات الله عليهم فإنهم أئمة هُداة، حُماة، رُعاة، محبتهم واحدة، وولايتهم واحدة، ودينهم واحد، وإنما فعلت الرافضة ما فعلت خذلاناً للذرية الطاهرة، وتقوية للظلمة الفاجرة، وإن لم تقصد ذلك فقد كان تابعاً لاعتقادها من تصحيح إمامة القاعد، وبطلان إمامة القائم المجاهد، فعكسوا القضية، وفرَّقوا بين الذرية، ونصروا الأموية والعباسية، نصرة لاتقوم بها المشرفية، والسمهرية، ولا تفضَّلها صدور الأعوجية، فيالها في الدين من رزية، وما اعظمها من بلية.
ألم يعلموا أن الإمام المستحق للإمامة لو احتجب عن رعيته حجاباً غليظاً لبطلت إمامته، ولو أهملها من تعليم ما يلزم تعليمه من معالم دينها لباء بإثمها، ولو عطَّل الحدود لخالف الحكم، وعصى الأمر، وليس ذلك يجوز في آحاد المسلمين فكيف في إمامٍ مرتضى.
وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام على انحراف الأمة عنه، واستبدادها بالأمر دونه لايتأخر عن المحافل، ولا يغضي في المقامات عن إيراد الحجة، وإبلاغ الموعظة، والنصح في التذكرة، وذلك معلوم مدون في خطبه، ومقاماته، ومواعظه، ورسالاته، فما يكون حكم إمامٍ لايقفوا أثر علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام؟ ما يكون حكمه عند المسلمين؟.
ألم يعلم كلام إبراهيم بن عبدالله عليه السلام لما قيل له في بعض مسيره، قال: هل هي إلا سيرة علي أو النار.(1/226)
ولقد طُلِبَ القاسم بن إبراهيم عليه السلام مالم يطلب حسني، ولا حسيني يمثل طلبه فملأ البلاد علوماً، وحكماً، وفتاوي، وفوائد بحيث لايمكن كتمانها، ولا إنكارها فكيف يصوغ لإمام ثابت الإمامة أن يواري من الأمة شخصه، ويغبي مكانه، وعليه لله تعالى حق في الأمة، وعلى الأمة له حق، فكيف يتمكن من استيفاء حقه منها إذا غاب قبل إبلاء العذر في طلبه لتكون الحجة له عليها، أو يتمكن من إيفائها ما فرض اللَّه لها عليه من الرشد، والهداية، وهو غائب عنها.
ومن عجائب روايتهم أن الحجة صاحب الأمر في الأمة المنوط به تكليفهم، ومصالح دينهم ودنياهم رووا فيه أنه يتردد بينهم، ويمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم، ولا يعرفونه، ولا يعلمهم بنفسه فأي حجة يلزم لمن هذا حاله، وهل تردده بيننا يكون أبلغ من ملازمة حفظتنا لنا من الملائكة عليهم السلام لا يأمروننا بمعروف، ولا ينهوننا عن منكر، ولا ينصرون مظلوماً، ولا يضربون على يد ظالم فما يمنع من يقول إن الإمام فينا، وحجة اللَّه علينا ملائكتنا الحفظة لأن لهم بنا من الاختصاص ما ليس لغيرهم، وما ليس للإمام، لعل الإمام يطوف علينا لو صح قولهم في ذلك على كل إنسان في عشر سنين مرة، وهؤلاء ملازمون ليلاً ونهاراً فهم أولى بأن تكون حجتهم ألزم، وهؤلاء لاخلاف في قيامهم علينا بالشهادة، كما قال تعالى: ?عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ?[ق:17ـ18]، والخلاف قائم فيمن ادعته الإمامية إماماً في كونه في الدنيا أولاً، وقد حققت ذلك رواياتهم، ثم بعد ذلك في غَيبته، وصفاته، وبقائه، وإمامته، وجميع أحواله.(1/227)
فهذه النكته فيها علم نافع لمن تأمله بعين الإنصاف، ولأن القطعية قد ادعت على الواقفة، والناووسية، وأمثالهم ممن ادعى مغيب الواحد المنتظر، وقالوا: ذهبوا إلى ماعلم خلافه ضرورة فإن المذكورين عُلم موتهم، ومثل هذه الحجة تقوم عليهم في الإمام الذي ادعوا مغيبه، وسموه محمداً، وبعضهم لم يسمه لأن الحسن بن علي عليه السلام كان أمره ظاهر السنة، وحاله لأم ولد تدعى سليل النوبية، ولد سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وتوفي في جمادى الأولى من سنة ستين ومائتين [وله اثنان وعشرون سنة ووفاته مشهورة]، ولا يعلم له ولداً مات عنه، ولا يوجد له أثر في شيء من كتب أنساب [آل] رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نعرف ميراثه، ولا تراثه إلا في أولاد جعفر بن الحسن رحمة الله عليه، ومثل ما ادعوا لم يمكن دعواه لأمرٍ يسير وهو تراث الدنيا بعد النزاع الشديد، واشتهار الحال، والإجهاد في الطالب، فكيف يصح دعوى الإمامة، وهي من أصول الدين العظيمة.
ولأن الشرائط المعتبرة في الإمام فرع على العلم به، والعلم بذلك مفقود، والإمامية وإن كثرت فادعاؤها وجوده لاينتهي إلى المشاهدة، وإنما ينتهي إلى الإعتقاد الذي يقع فيه الإلتباس.
فأما الصفات وما ذهبوا إليه من الإستدلال على وجوب الإمامة عقلاً، وملازمتها لجميع أوقات التكليف، ووجوب العصمة، وأن يكون أفضل الخلق، وأن يكون منصوصاً عليه، وأن يظهر المعجز على يديه، فقد تكلمنا على هذه الوجوه فيما تقدم، وإنما نزيد الأمر بياناً، والمذهب برهاناً.(1/228)
[الرد على استدلال الإمامية على وجوب الإمامة عقلاً]
فنقول: أما قولهم إنما قلنا بوجوبها عقلاً لأنَّا إذا علمنا أن المكلفين غير معصومين، ويجوز منهم الخطأ، والظلم، والفساد. قالوا: فقد علمنا ضرورة أن المكلفين متى كان لهم رئيس مطاع منبسط اليد يؤدب الجُناة، وينتصف من الظالم للمظلوم، ويردع المعاند كانوا إلى الصلاح أقرب، وعن الفساد أبعد، ومتى خلوا من رئيس صفته ماذكرنا كانوا إلى الفساد أقرب، ومن الصلاح أبعد، ووقع الهرج، والمرج.
قالوا: والعلم بما ذكرنا ضروري بالشرط الذي ذكرناه لايختلف بالأزمان، والأوقات والأحوال، بل الأحوال مستمرة فيما ذكرناه فبان بما ذكرنا أن وجود الرؤساء لطف، وإذا ثبت كونه لطفاً لازَم أوقات التكليف كالمعارف وغيرها.
وقد ذكره الشريف، وذكره الطوسي أبو جعفر، وذكروه في (الشافي)، وذكروه في (الذخيرة)، ولايكاد كتاب لهم يخلو من هذه الجملة، وإن اختلفت الألفاظ والعبارات.
فلنتكلم على هذه الجملة بما يحتمله هذا المختصر بما يكون نافعاً إن شاء اللَّه تعالى:
أما قوله: بأن الأمة غير معصومة، فلا شك أن آحادها كذلك دون جملتها لأن اللَّه تعالى قد أمر باتباعها، وتهدد ونهى من سلك غير سبيلها، وجعل اتباع غير سبيلها بمنزلة مشاققة الرسول، وذلك ظاهر في قوله تعالى: ?وَمَنْ يُشَاقِق الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]، والتهدد لايقع على ترك فعل [فعلٍ] إلا وذلك المفعول قبيح، والمتروك واجب لأن التهدد من حكيم لايجوز عليه القبيح.
وأما الآحاد فلا شك في وقوع المعاصي منهم، وفقد عصمتهم، وأما ما ذكر من صفة الرئيس، وأنه متى كان منبسط اليد يؤدب الجناة، وينتصف من الظالم للمظلوم، ويردع المعاند كانوا إلى الصلاح أقرب، ومن الفساد أبعد إلى آخر ما قال.(1/229)
فهذا مثال لايطابق الممثول لأنه لم يوجد في من ادعت الإمامية إمامته من أهل البيت عليهم السلام من لدن ظهور دعواهم إلى يومنا هذا من صفته ما ذكروا من ردع الظالم، والانتصاف للمظلوم، والتأديب للجناة، والردع للمعاند لأن أول من أثبتوا له الإمامة التي هي السبق والرئاسة العامة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن الحسين زين العابدين عليه سلام رب العالمين.
فهذه الأمور التي ذكروها معدومة في علي بن الحسين عليه السلام لأنه ماضرب على يد ظالم، ولا انتصر لمظلوم ولا أدَّب جانياً فإذاً لايكون إماماً على قولهم، ولا لطفاً للأمة لأن صفة اللطف فيه معدومة، وهي الإستظهار الذي ثمرته ماحققوه.
فإن قالوا: إن تعذر ذلك من الأمة لعدم نصرتهم له وقيامهم بطاعته، واللطف لايكون موجباً.
قلنا: وإن كان الأمر كما قلتم من عدم نصرتهم له، وإحداثهم، ومعاصيهم التي إمامته لطف فيها فكيف يجعلون موجب اللطف هو النافي له لأنهم لو عصموا لما احتاجوا إلى الإمام، وكونه لطفاً، ولأنا نقول لهم: هل الإمام لطف في نفي المعاصي التي يتمكن من إزالتها، أم هو لطف في جميع المعاصي باطنها وظاهرها؟ فإن كان لطفاً في جميع المعاصي فالمعلوم خلافه، قلنا: فلم تنتفِ جميع المعاصي على عهد الرسول بل زاد الناس على عبادة الأصنام تكذيب الرسول الصادق [فأضافوا] معصية إلى معصية، وإن قالوا: هو لطف في المعاصي الظاهرة، وإزالتها.
قلنا: فهذا حاصل في أئمة الزيدية عليهم السلام فإنهم نفوا المعاصي الظاهرة نفياً عاماً، وكان منهم في ذلك [ما] تعلمه الكافة مالم يكن من الذين ادعت لهم الإمامية الإمامة من ولد الحسين عليهم السلام.
فإن قالت الإمامية: إن الأئمة الذين ادعينا لهم الإمامة أفضل.(1/230)