وإن قالوا: إنما تركه لعدم الناصر والمعين.
قلنا: عليه تبيين مكانه ليجب على الأمة نصرته، فإن تأخرت كان الإثم عليها دونه، وإن كتم نفسه كان الإثم عليه دونها.
فإن قال: لايجد مكاناً يظهر فيه نفسه.
قلنا: هذا لايصح مع سعة الدنيا، وتباين أطرافها، وكثرة الأولياء لأهل البيت عليهم السلام في كثير من أقطارها، وقد قام كثير من آل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم من ولد الحسن، والحسين عليهم السلام، وأنفذوا الأوامر، وأمضوا الأحكام، وأقاموا الحدود في كثير من البلدان، ولم يتمكن منهم الظالمون من الجنود العباسية، وما زالوا غالبين على جهاتهم حتى صاروا إلى رحمة اللَّه، والمعلوم من ولد الحسن، والحسين عليهم السلام أنهم يتدافعون الإمامة كل واحد منهم يريد أن يكون الإمام صاحبه، ويكون هو المأموم القائم بنصرته، ولو خرج الإمام على الصفة التي ذكرت الإمامية لكانت الأتباع له من الزيدية خاصة أكثر، والنفوس إليه أسكن لظهور المعجز على يديه، والعلم بعصمته.(1/221)


وقد روينا بالإسناد الموثوق به إلى محمد بن منصور المرادي رحمه اللَّه أنه قال: اجتمع في منزلي من آل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أربعة أعيان آل محمد [رسول اللَّه] صلى الله عليه وآله وسلم في عصرهم، وهم: القاسم بن إبراهيم ترجمان الدين، وأحمد بن عيسى فقيه آل رسول اللَّه [صلى الله عليه وآله وسلم]، وعبدالله بن موسى، والحسين بن زيد، حسنيان وحسينيان، فلبست ثيابي وتأهبت لخروج السوق فقالوا: ماتريد؟ قلت: أذهب إلى السوق، فآتي لكم بطعام من السوق يصلح لكم، فقالوا: إئتنا بما عندك، [قلت]: ليس إلا خبز شعير، وطاقات بقل، وملح جريش، قالوا: هو أحب إلينا، قال: فأتيت به إليهم فأكلوا وحمدوا اللَّه تعالى، قال: فتقدمت [من] بين أيديهم فأرخيت دمعتي، وقلت: ياسادتي، أنتم أعيان أهل البيت، ونحن بغير إمام، فبايعوا رجلاً منكم لنلقى اللَّه تعالى على بيعة إمام، قال: فقال القاسم [بن إبراهيم]: نعم ما رأيت، ثم التفت إلى أحمد بن عيسى، فقال: أبسط يدك لأبايعك فقد رضيتك لهذه الأمة، فقال أحمد بن عيسى: لايصلح هذا الأمر لأحد من أهل هذا البيت وأنت حي، فقال: اللهم، غفراً طلبت هذا الأمر لك فأحلت عليَّ، وقال أحمد بن عيسى للأخرين: ماقولكما؟ قالا: قولنا قولك، وما نرى لها إلا من رأيت، فلم يزالوا حتى بايعوه على أنه الإمام، قال محمد بن منصور: ثم افترقوا من عندي لم يجتمعوا بعدها لشدة الطلب، وعدم انتظام الأمور.
فأردنا ذكر هذا ليعلم السامع أن أهل [هذا] البيت سلام اللَّه عليهم يطلبون المستحق لذلك منهم، ويبايعونه، ويجتمع عليه آل الحسن، وآل الحسين سلام اللَّه عليهم من أي السبطين كان، لايفرقون بين أحد منهم، وكل واحد منهم يود أن المتولي لذلك صاحبه.(1/222)


وقد روينا فيما تقدم أن جعفر بن محمد عليه السلام بايع محمد بن عبدالله عليهم السلام، وأعتذره من الحضور معه لضعفه وسنه، وأمر ابنيه عبدالله، ومحمداً بالقتال بين يديه فكان أول قتيل من المسودة الفجرة قتل بين يديه اشتركا في قتله، وكان رأي من ادعت الإمامية إمامته من ولد الحسين عليهم السلام رأيهم رأي أئمة الزيدية من لدن زيد عليه السلام إلى آخر الأئمة عليهم السلام، قد روينا من كتاب [المحيط بالإمامة] مارفعه راويه إلى أبي خالد الواسطي، قال: أتينا جعفر بن محمد عليه السلام ببارق إذ هو جالس على رحل يجمعه بكفه، فسلمنا عليه [ألطف سلام]، فقلت له: جعلت لك الفداء، ماتقول في زيد؟ قال: عمي، قلت: نعم، فنكس رأسه يبكي طويلاً ثم رفع رأسه، ومسح عن عينيه، ثم قال: خرج عمي - والله - على الفطرة ثلاثاً فمن أحبني فليخرج بخروج عمي، والله ما خَلَّف عمي فينا لدين، ولا دنيا خيراً منه.
ورفع بإسناده إلى عبيدالله بن داهر، عن أبيه، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد قال: ذكر زيد بن علي عليه السلام فقال: رحمه اللَّه عمي كان - والله - سيدنا والله ماترك فينا للدنيا، ولا للآخرة مثله.
ورفع إلى عمر هو ابن عابد قال: كنت عند أبي عبدالله جعفر بن محمد عليه السلام فذكرنا زيد بن علي عليهما السلام فقال: رحم اللَّه عمي، رحم اللَّه عمي، خرج على ماخرج آباؤه، وددت أني استطعت أن أصنع كما صنع عمي فأكون مثل عمي.
وقال جعفر بن محمد عليهما السلام: [من قُتِل مع عمي زيد بن علي عليهما السلام كمن قُتِل مع الحسين عليه السلام]، ومن قتل مع الحسين عليه السلام كمن قتل مع علي بن أبي طالب عليه السلام.(1/223)


ورفع بإسناده إلى بشير النبال قال: كنت عند أبي عبدالله جعفر بن محمد عليهما السلام فقلت له: جعلت فداك، إني تركت فلاناً في الطواف يتبرأ من عمك، فقال: أو ليس قد سبق الإمام، فقال جعفر [بن محمد عليهما السلام]: برئ اللَّه منه، رحم اللَّه عمي، إن اتبع إلا أثر عمي، إن كان علم عمي لينهال انهيال الكثيب مانظر إلى عمي شامتاً إلا كفر، وكان كافراً.
ورفع إلى يونس بن أبي يعقوب، قال: سألت أبا عبدالله جعفر بن محمد عليهما السلام عن خروج زيد بن علي عليهما السلام؟ فقال: خرج مخرج آبائه، ومخرج الحسين بن علي صلوات الله عليهما.
وروى الناصر الحسن بن علي عليه السلام، بإسناده إلى عبدالرحمن بن سبابة قال: دفع أبو عبدالله جعفر بن محمد عليهما السلام إليَّ ألف دينار، [و]قال: وأمرني أن أقسمها في عيال من أصيب مع زيد بن علي عليهما السلام فقسمتها فأصاب عبدالله بن زبير الرسان أربعة دنانير.
وكذلك الحال مع محمد بن عبدالله عليهما السلام فإنه لما قام بالمدينة أجتمع له من حضرها من ولد الحسن والحسين عليهما السلام.
وروى بإسناده إلى يحيى بن عبدالله بن الحسن عليهم السلام، أن جعفر بن محمد عليهما السلام بايع محمد بن عبدالله بن الحسن، وأرسل ابنيه موسى، وعبدالله معه، واستأذنه لسِنِه في الوقوف في منزله.
ورفع بإسناده إلى علي بن جعفر قال: سمعت أخي موسى بن جعفر يقول: ليس منَّا أهل البيت إمام مفترض الطاعة، وهو جالس في بيته، والناس يختطفون من وراء بابه لايدفع عنهم ظالماً، ولا يهديهم سبيلاً، إنما الإمام منَّا الباذل نفسه لله، العالم بكتاب اللَّه، الداعي إلى الحق، الناهي عن الباطل.
ورفع إلى كثير بن زيد قال: قال لي جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: أقرئ عمي السلام، وقل له: يقول لك جعفر: لا تنالني شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن كنت أزعم أني إمام.(1/224)


ورفع إلى عمرو بن خالد قال: دخل جعفر بن محمد عليه السلام المسجد، وعبدالله بن الحسن سلام اللَّه عليه في جانب قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل حتى وقف على عبدالله فسلم عليه فقال: السلام عليك ياعم، فقال عبدالله: وعليك السلام يا ابن أخي، ما هذا الذي يبلغني عنك أنك تقول: إنك إمام مفترض الطاعة، من لم يعرف ذلك مات ميتةً جاهلية؟ فقال جعفر عليه السلام: والله الذي لاإله إلا هو، وحق صاحب هذا القبر ما قلت في نفسي هذا قط، وإنه ليُكذب عليَّ، فقال عبدالله: أنت الصادق والبار، وهم الكاذبون الفجار، ثم مضى جعفر عليه السلام، فقال عبدالله: والله لو أردت منه الطلاق لحلف لي به.
هذا وأمثاله كثيرة، والغرض بذلك أن نبين أنه لم يكن بين أهل البيت عليهم السلام خلاف، وأنهم كانوا على كلمة واحدة في باب الإمامة، وأن كل وقت كان يقوم واحد منهم برضى الآخرين، وبمشورتهم، وأن الأئمة التي اعتقدت إمامتهم للزيدية والمعتزلة كانوا فضلاء أهل البيت عليهم السلام، والذين اعتقدت الإمامية إمامتهم يرون بإمامتهم ولا يختلفون فيها.(1/225)

45 / 73
ع
En
A+
A-