فتأمل أيها الناظر إذا جوزت هذه الفرقة الكذب على اللَّه عز وجل، وعلى رسوله عشر مرات كيف يوثق بحديث الأئمة عليهم السلام، ورواياتهم، [وحكوا] أن المخلصين قالوا: لو كذب اللَّه ورسوله مائة مرة لصدقوهما، والكذب هو الخبر الذي [لو] كان له مخبر كان لاعلى ماهو به، وتصديق الكاذب كذب كما يعلم ذلك أهل الشرع، واللغة، والعقل فانظر إلى هذه الأقوال ما أوهاها لمن يتمكن من الفرق بين الحق والباطل، ولو عرف العقلاء من رجل يعرف بالصدق الكذب في خبر واحد لما صدقوه، فكيف برب العزة علام الغيوب القادر على مايشاء، وكذب الصادق أدخل في باب القبيح لأنه جاء بغير مايعتاد منه.
وهل التنفير عن الأنبياء يكون بأكثر من هذا، ولو علم من صغار الناس وسفسافهم إخبار بشيء من الكذب مرة بعد أخرى لسقطت منازلهم عند العقلاء، ولما صُدِّقُوا بعد ذلك، ولو أخبروا بالصدق، قال الشاعر:
كَذَبْتَ ومَن يكذِب فإنَّ جزآءَهُ .... إذا ما أتى بالصدق أن لايُصَدَّقَا
فهذا في المخلوقين فكيف يضاف إلى الأئمة، بل إلى الأنبياء المرسلين، بل إلى رب العالمين، والله تعالى يقول: ?مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ?[ق:29]، فأي تبديل أعظم من هذا لو صح تعالى اللَّه عنه.
والقوم اشترطوا في الأئمة عليهم السلام العصمة، والعصمة ممَّاذا تكون إن لم تكن من الكذب الذي هو أقبح القبائح، وأكبر معاصي المعاصي، القوم قالوا في الإمام بأقوال قولهم في الغَيبة ينافيها، منها: أنهم جعلوه لطفاً، وقد كررنا هذا إلا أن الحال أوجبت تكراره فكيف تجوز غَيبة اللطف، ومذكِّراً فكيف يصح فقد المذكر، ومنبهاً فمن أين يجوز فقدان المنبه، ومجددًا للشريعة، أو حافظاً لها، أو متمماً لنقص العباد، والنقص ملازم لجميع أحوالهم فكيف يجوز مغيبه.(1/216)


ومنهم من قال: يعرفهم المنافع، والمضار، والسموم، والأغذية، قلنا لهم: المنافع، والمضار قد عرفناها الباري سبحانه بإكمال العقول، والسموم والأغذية كفت بالإحتراز منها التجارب، والمعنيون بذلك من الأطباء، ولأنا نعلم أن كثيراً من البهائم أقوى أجساماً، وأمد خلقاً، وأستمر صحة، ولا إمام لها يميز لها بعض الأجسام من بعض فإن قيل: كفاها الإلهام.
قلنا: فهلا كفتنا العقول، وقد أبطلنا قولهم بالعصمة، وقولهم بظهور المعجز على الأئمة عليهم السلام بما تقدم فانتقض دليلهم ؛ لأنهم قالوا: قد ثبت شرط المعجز، والعصمة، ولا نجدها في من أدَّعى الإمامة فيجب أن يكون غائباً مستوراً إذ لايجوز خلو الوقت من إمام.
قلنا: أما العصمة فإنا نجد من آل الرسول سلام اللَّه عليهم من لايعلم منه الكبيرة من حال طفوليته إلى كبره، ولقاء ربه، فإن جعلت هذا [علة] العصمة فأكثر أئمة الزيدية عليهم السلام، بل كلهم معصومون فيما نعلمه، وإن قلتم: لابد أن نعلم باطنه فلا سبيل إليه في الذين عينتم، ولا في غيرهم، بل قد رويتم عن الأئمة الذين ادعيتم عصمتهم ما ينافي روايتكم من أنهم نطقوا بالكذب، وجوزوا على اللَّه البداء وهو كفر من معتقده، وجوزوا الرجعة، وهو خلاف المعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة.
وأما المعجز فلا سبيل إلى تصحيحه، وإن كنتم قد رويتموه فقد روى غيركم لمن عُلم خلافه منه أكثر من ذلك، فما الموجب لقبول ما رويتم دون غيركم، وأنتم لاتدعون لأنفسكم عصمة؟ هذه المجبرة المدبرة قد روت لفقهائها، وصَوَفتها ما لاتتسع الأوراق له حتى أن الواحد منهم يحج من مسيرة شهر في ليلة واحدة يقطع المسافة، ويستتر ببعض الأشجار، وينبع له الماء، ويتطهر، ويقيم الدهر الأطول لايأكل ولا يشرب.(1/217)


وروى بعضهم أن بعض فضلائهم حَمَل أرضاً له على ظهره خاف أن يغتصبها الظالم إلى جهة أخرى، وبعضهم قمس في إناء وضوءه فسلم من الأعداء، إلى غير ذلك من هذه الترهات التي لو أوردنا استقصاء ماعلمناه منهم في هذا الباب، احتجنا إلى كتب جمة فضلاً عن كتاب، وهذا قليل من كثير، وهم مطبقون للدنيا ومطبقون على هذا في كل قطر.
فأما الكرامات من اللَّه تعالى لأوليائه فهي معلومة لآل الحسن عليهم السلام كما تعلم لآل الحسين عليهم السلام من استجابة الدعوة، وتفريج الكربة، وظهور فضائل جمة هي مذكورة في سيرهم عليهم السلام، ولا يعد ذلك معجزاً.
فإن قالوا: إن ذلك معجز، فليقولوا بإمامة من نفوا إمامته من ولد الحسن، والحسين عليهم السلام، وإن قالوا: إن الإمام لطف، وكان المنع في ظهوره من قِبَل الأمة.
قلنا: لابد إما من حصول اللطف، أو من التمكين منه كما نعلم أن اللَّه تعالى قد مكَّن الكافر من المعرفة فأتي من قبل نفسه في ترك الإستدلال، وليس كذلك الإمام، [فإنا] نحن والإمامية في نهاية مايكون من طلب الإمام على الوجه الذي ذكروه بكل وجه فما تمكنا نحن ولا هم من ذلك، فهل يجوز حصول لطف لاطريق للمكلفين إليه، ولا يفعله اللَّه تعالى ابتداءً؟ هذا مالم يقل به أحد من أهل العلم، وقد تقرر من مذهب أهل العلم بالأصول أن اللطف إذا وقف على فعل الغير، وعلم اللَّه أن ذلك الغير لايفعل ذلك الفعل فإن اللَّه تعالى لايتعبد المكلف بذلك التعبد إلا أن يكون قد فعل له مايقوم مقامه إن كان ذلك في المعلوم، وأهل المعرفة بالأصول منهم لاينكرون هذه الجملة.
قالوا: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غاب في الغار فإذا جوزتم ذلك في المدة القصيرة فجوزوه في المدة الطويلة.(1/218)


قلنا: لايجوز أن يتعلق بظهوره في تلك المدة مصلحة بل لايمتنع أن يكون ظهوره عليه السلام في تلك الحالة ينافي المصلحة، ولهذا مرَّت أعصار كثيرة لانبي فيها لارتفاع المصلحة الدينية في ذلك، وهذا من الغيب الذي لايعلمه إلا اللَّه، وكما تجوز غَيبته في تلك الحال تجوز إمامته وأنتم لاتقولون بهذا في الإمام، ولأن الغَيبة القليلة لاتساوي الكثيرة فيما نعلم في المشاهدة، لأن الرئيس المهيب متى غاب غَيبة يسيرة لم يمتنع أن تكون هيبته في القلوب أعظم من هيبته حال حضوره، فإن غاب غَيبة طويلة، وتمكن فيها عدوه من كل مراد فإن ذلك يسقط هيبته فيما يعلمه العقلاء، وينسبونه إلى الإهمال، أو إلى العجز المنافي للهيبة الموجبة للتعظيم والإجلال.
فإن قال: يجب بقاء الإمام للحاجة إليه لأجل جواز الخطأ على الأمة فلا بد من إمام معصوم يردهم إلى الصواب.
قلنا: قد ثبت وجوب تكليفهم مع غَيبته عندكم، وفقد التنبيه، والرد عن الخطأ؛ فهلا ثبت التكليف مع موته.
فإن قالوا: تجويز الأمة لظهوره في كل زمان تحصل به فائده لاتكون مع الموت.
قلنا: وتجويزهم لإحياء اللَّه له بعد موته لأنهم يقولون بالرجعة، أو [أن] يقوم إمام غيره يجري هذا المجرى، ولأن تجويز خروج الإمام لايمنع الخطأ، ولأنهم قالوا في تصانيفهم: الإمام يستأنف، ويطرح ما مضى، وهذا بنفسه يغري بالمعاصي، والاتساع فيها، فإذا خرج الإمام استأنف أحوال الناس، وأهمل الماضي فتكون غَيبته على هذه الصورة إغراءً بالمعاصي، ولأن كل ما استدلوا به على نفي قول الكيسانية، والمغيرية، والمنصورية، والناووسية، والواقفية، وغيرهم ممن ذكره يؤدي إلى الاسهاب الذي حرسنا منه هذا الكتاب، فهي الدليل على نفي قولهم.
فإن قالوا: إن [أولئك] انقرضوا.
قلنا: وما الدليل [إلى العلم] بإنقراضهم مع إتساع نطاق الإسلام، وسعة أقطاره؟ فالحمد لله.
فإن قالوا: إن موت أولئك معلوم.(1/219)


قيل لهم: وإن عدم الولد من الحسن بن علي عليه السلام معلوم، ولهذا اقتسم أخوه جعفر مع سائر ورثته ميراثه، ولم ينكر أحد من المسلمين، ولا علم فيه مخالف بعد استبراء حال جاريته نرجس بحبس أربع سنين.
ومع رواياتكم عن الأئمة عليهم السلام أن ولادته غير معلومة.
فإن قيل: لو كان نفي ولادته معلوماً لما خالفت الإمامية في ذلك، وهم الجم الغفير.
قلنا: إنما جوَّزنا عليهم الخطأ لإضافتهم ماقالوا إلى الإعتقاد الذي أضافوا أصله إلى ثلاثة رجال وامرأة هي أخت الحسن بن علي عليه السلام، ومثل هؤلاء يجوز عليهم الخطأ لأنواع شتى، والتمالي على العصيان، وقد كانت الكيسانية، والواقفة خلقاً عظيماً، فهلا صححتم قولهم!! ولأن العرب على كثرتها تطبق على رواية مستحيلة كالغول، والعنقاء، وما شاكل ذلك، ولم يدل على صحة قولهم.
قالوا: فإن الشريعة قد غيرت، وبدلت فلا بد من إمام يصلح ذلك، ومن قال بهذا قال بما قلنا.
قلنا: غير مسلم ماذهبتم إليه من تغيير الشريعة لأنها محروسة بذرية [آل] الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبعلماء الإسلام، وهي على نوعين: معلوم لايمكن تغييره، ومظنون له أصول من المعلوم يرجع إليها، فكيف يصح دعوى التغيير؟.
ولأنا نقول [لهم]: هل تقولون باستمرار التكليف على المكلفين بالشريعة مع غيبة الإمام أم لا؟ فإن قالوا باستمرار التكليف وهو قولهم، قيل: فقد استغني عن الإمام، وإن قالوا: لاتكليف علينا بالشريعة خرجوا من دين الإسلام، ولا قائل بذلك، ولأنا نقول لهم: لما يراد الإمام؟.
فإن قالوا: لإقامة الحدود، وحفظ البيضة، وإقامة الجمعة، وأخذ الأموال طوعاً وكرهاً.
قلنا: فالغَيبة تنافي ذلك كله بالإضطرار، وما يكون حكم الإمام إن ضيع حداً من حدود اللَّه تعالى، وترك إقامته، أو فرَّط في صلاة الجمعة، أو في أمر بمعروف، أو في نهي عن منكر، أو ترك إرشاد ضال أو جواب سائل، مايكون حكمه لأن هذا فرض الله عليه، ومن ترك الفرض عصى.(1/220)

44 / 73
ع
En
A+
A-