وحكى عن أنبيائه عليهم السلام الدعا إلى اللَّه تعالى عموماً، فقال حاكياً عن نوح عليه السلام: ?إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا?[نوح:5،6]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات ليس بإمام جماعة، ولا لإمام جماعة في عنقه طاعة، فليمت ميتة جاهلية))، وهذا يوجب على المستحق الدعاء، وعلى التابع الإجابة، فمن لم يدعُ لم يلزم فرض الإمامة، لأن الأمة وإن اختلفت في أن الدعوة طريق الإمامة فلم تختلف أن الواجب على الإمام الدعاء وقبض البيعة، وإن كان منصوصاً عليه كما فعل علي عليه السلام فإنه دعا الناس إلى البيعة، [وقفاه] ولداه بذلك سلام اللَّه عليهم لتكون الحجة له على الأمة.
وروى بإسناده إلى هشام بن سالم، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: يقوم القائم وليس لأحد في عنقه بيعة، ولا عهد، ولا ولاية، وهذا أعجب من الأول ؛ لأن من مذهبهم أن ولايته منعقدة في أعناق الأمة من لدن غَيبته إلى ظهوره فأما أن يسقطوا الخبر بذلك، وإما أن يصححوه ناقض ماهم عليه، فانظر في ذلك بعين الفكر.
وروى بإسناده إلى حازم بن قيس قال: دخلت على أبي عبدالله عليه السلام فقلت: أصلحك اللَّه! إن أبويَّ هلكا، ولم يحجا، وأن اللَّه قد رزق وأحسن فما ترى في الحج عنهما؟ فقال: إفعل فإن ذلك يصل إليهما، ثم قال: يا أبا حازم، إن لصاحب هذا الأمر غيبتين يظهر في الثانية فمن جاءك يقول [ذلك] أنه نفض يده من تراب قبره فلا تصدقه [فلا تصدقه].
وهذا كما ترى أمر منه في ظاهر الخبر بأن لايصدق المشاهد، ومثل هذا لايجوز أن يقع من العلماء فضلاً عن أئمة الهدى، لأنه إذا نفض يده من تراب قبره علم موته ضرورة، فكيف يأمره عليه السلام بنفي الضرورة.(1/206)
وروى عن إبراهيم الحازمي، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام أكان أبو جعفر يقول: لقائم آل محمد غيبتان أحداهما أطول من الأخرى؟ فقال: نعم، ولا يكون ذلك حتى تختلف سيف بني العباس، وتضيق الحلقة، ويظهر السفياني، ويشتد البلاء، ويشمل الناس موت وقتل، ويلجؤا فيه إلى حرم اللَّه، وحرم رسوله عليه السلام فهذا كما ترى تحقيق وقوع الغَيبتين عند اختلاف سيف بني العباس، وظهور السفياني، وإلى الآن لم يظهر السفياني، فإذاً لاوقوع للغَيبتين بعد، وهذا خلاف مذهب القوم، فتأمل ذلك فضل تأمل تجده كما قلنا إن شاء اللَّه تعالى.
وروى المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبدالله [عليه السلام] يقول: لصاحب هذا الأمر غيبتان أحدهما رجع فيها إلى أهله، والأخرى يقال: منها، هلك في أي واد سلك قلت: فكيف نصنع إذا كان ذلك؟ فقال: إن ادَّعاها مدَّع فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله، وهذا كما ترى فيه [ذكر] رجوعه إلى أهله في إحدى الغَيبتين، وهو ينافي ماتقدم، وفيه خلاف المعلوم لأن استمرار أخذ جعفر لميراث الحسن عليه السلام، وأخذ أولاد جعفر له في العراق والحجاز معلوم لمن علم أن حسناً، وجعفراً أخوان كانا في الدنيا، ومات الحسن، وجعفر حي، ودليل على بطلان قولهم أن دلالة الإمامة المعجز ؛ لأنه قال: سلوه عن تلك العظائم التي سأل عنها مثله، فأوجب ماقلنا من اشتراط العلم بما تحتاج إليه الأمة في أمر دينها فهو ناقض لمذهبهم إن صححوه، وإن أبطلوه قضوا بذلك في أمثاله، فنعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى مثل هذه الحال، ويدخل صاحبه في الإشكال.(1/207)
وروى عن معاوية البجلي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: قلت له: ماتأويل هذه الآية: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ?[الملك:30]، فقال: إن فقدتم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد، فهذا كما ترى تأويل يخالف الظاهر، ويناسب تأويلات الباطنية الذي أطبقت الأمة على إلحادها، لأن الماء المعين إذا اطلق أفاد النهر الجاري حقيقة، والمنة بالماء عظيمة فكيف يحمل عند إطلاقه على الإمام، وقد منَّ اللَّه تعالى على عباده بأنواع النعم، والماء أعلاها، وأسناها والحاجة إليه أمس، والنفع به أظهر، ولولا هو لم يبق على الدنيا أحد لاسيما وهم على الحال الذي هم عليه من البشرية، ولا يأتي بالماء المعين إلا اللَّه تعالى، والإمام الجديد لابد منه على كل حال، لإنا روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن أهل بيته عليهم السلام كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) [فكيف يتصور مغيبه والأرض لاتخلو من الحجة مابقي التكليف يعلمه الناس أجمعون، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شبههم بالنجوم، والنجم لايصح خفاؤه، ولا يخمد ضياؤه لأنه القدوة في الهداية، ولهذا صح التمثيل النبوي على قائله أفضل السلام، وعلى الطيبين من آله، ولا يغيب نجم أبداً إلا ويطلع نظيره، وقد ورد في الذرية التمثيل من الرسول بالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم].
ورفع إلى زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: [إن] للغلام غيبة، ويجحده أهله، قلت: ولم ذاك؟ قال: يخاف، وأوما إلى بطنه.(1/208)
وروى بإسناده إلى حصين التغلبي، عن أبيه قال: لقيت أبا جعفر عليه السلام في حج أو عمرة فقلت: كبر سني، ودق عظمي، ولست أدري يقضى لي لقاؤك أولا؟ فأعهد لي عهداً، وأخبرني متى الفرج؟ فقال: إن الطريد الشريد الفريد الوحيد، المفرد من أهله، الموتور بوالده، المكنى بعمه هو صاحب الرايات، واسمه اسم نبي فقلت: أعد عليَّ فدعا بكتاب أديم، أو صحيفة فكتب لي فيها، ورووا في هذا المعنى أمثال هذا الحديث، ورووا عن أبي القاسم التيمي، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد عليهم السلام أنه قال: إذا توالت ثلاثة أسماء محمد وعلي والحسن [والحسين] كان رابعهم قائمهم، وهذا جوابه على من يدعي الغَيبة لمن هو على غير هذه الصفة في الأسماء ممن يَقبل في أصول الدين روايات الآحاد من أهل التحصيل.
فأما نحن فلا نقبل من الأخبار في أصول الدين إلا ماتحصل العلم به من قبيل التواتر إن لم يحصل علم الضرورة، ويعلمه معنا المخالف ليلزمه فرضه، وإلا فما يوجب الحكم عليه فيما لايعلم، وهذا باب من دخل فيه لم ينته إلى غاية، وقام بإزائه من خصومه من يدعي لتصحيح باطله مايروى فيه رواية، أو سع من روايته، فأيهما يكون أولى بالحق والإصابة إن لم يرجع إلى الأدلة الصحيحة، والروايات الظاهرة المعلومة ؛ لأن الفرض العام دليله عام، فلا تقبل به دعوى الخصوص، فتأمل ذلك.
ولم نكثر من الرواية إلا ليتأمل العاقل هذه الروايات على كثرتها أنها لاتغني من تعلق بها، لما نذكره من البرهان [عند انقضائها فنرجع إلى طلب الدليل النافع الواضح، والبرهان] الجلي اللائح، فإن دليل الحق باهر، وسلطان حجته قاهر، لايمكن الخصم دفعه وإنما يروم تحريفه عن مواضعه، وإلا فهذا كما ترى تفصيل لو صح رفع الإشكال، ولكن ما السبيل إلى تصحيحه.(1/209)
وورى عن محمد بن سنان عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا جعفر [عليه السلام] يقول: لايزالون، ويزال، ولا يزالون، ويزال حتى يبعث اللَّه لهذا الأمر رجلاً، ولا يدرون خلق أو لم يخلق، فهذا كما ترى أكبر دليل على سقوط فرض من يدعون إمامته لأنهم مالم يعلموه لم يلزمهم فرضه، وهذا خبر قد صرحوا فيه عن إمام لو صحت روايتهم لكان فرض الإمامة ساقطاً لأنه لايلزمهم فرض ولاية من لايعلمون ولد أم لا، ولا سيما على من يرى رأي الإمامية فإنهم يوجبون في تصحيح دعوى الإمامة ظهور المعجزة، وهذا أمرٌ لايجهله من له أدنى مسكة من معرفة، فنسأل اللَّه تثبيتاً من الزلل، وعصمة من الخلل، وهذا قد تكرر في روايتهم بألفاظ مختلفة تدل على هذا المعنى أنه يقوم ولا علم لأحد من الناس هل خلق أم لم يخلق، وهم يلزمون الأمة العلم بإمامته، وأن لا إمام للأمة سواه من [سنة] ستين ومائتين إلى عشر وستمائة يوم أنشأنا هذا التصنيف، في شهر جمادى الآخرة، سنة عشر وستمائة، المدة ثلمائة وخمسون سنة.
وقد رووا عن أئمة الهدى عليهم السلام الأخبار الكثيرة بأن الأمة لاتعلم هل خلق أم لم يخلق، وهل ولد أم لم يولد، فإن صحت رواياتهم هذه سقط فرض إمامته عن الأمة، وإن استحالت روايتهم هذه فما طريقهم إلى ماذهبوا إليه؟.
ورفعوا إلى أبي جعفر عليه السلام أنه قال: لايزالون يمدون بأعناقهم إلى الرجل منَّا، يقولون: [هو هذا]، هو هذا فيذهب اللَّه به حتى يبعث اللَّه لهذا الأمر من لايدرون ولد أم لم يولد، خلق أم لم يخلق، والكلام في هذا على نحو ماتقدم.(1/210)