وكذلك الكلام في الحسن بن علي عليهما السلام فإنه تجرد لحرب القوم وأنهد إليهم الجنود وحشد الناس وخرج فيهم حتى وثبت عليه عسكره وظهر فجوره ومنكره، فجرحوه جرائح مثخنة صادقة، وهتكوا سرادقه، ونهبوا بيت ماله، وذهبوا بأكثر رجاله، فسالم عليه السلام معاوية على شرائط استامها، أن لا يعرض لأحد من المسلمين بمكروه ولا محذور، ولا يتعدى شرائع الإسلام في ظواهر الأمور، فأقام كذلك وعلى ذلك حتى اعتل ولي الله وابن نبيه بالسم، فلما مات الحسن خلع الملعون عذار الرسن فتعدى في الأحكام، وخلع ربقة الإسلام، فقيل للحسن بن أبي الحسن البصري: متى ذل الناس؟ قال: يوم مات الحسن بن علي، وقتل حجر بن عدي، وكان الحسين بن علي عليه السلام مبايناً لمعاوية أيام حياته، بالعداوة وامتنع عليه السلام من البيعة ليزيد مع بعض الجفوة، فلما مضت أيام معاوية شمر ليزيد والتجأ إلى حرم الله سبحانه وطلب بيعة الناس وناهض العدو بالحرب حتى لقي الله سبحانه على عهده، واختار الممات على الحياة، كما روينا بالإسناد الموثوق به إليه صلى الله عليه أنه خطب أصحابه لما أراد النهوض لمناجزة القوم، فقال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الدنيا قد تنكرت وأدبر معروفها، فلم يبق الإَّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا ينهى عنه، ليرغب المرء في لقاء ربه، فإني لا أرى الموت إلاَّ سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلاَّ شقاوة، ومن كان فينا باذلاً مهجته فليرتحل، فإني زاحف بهذه العصابة على قلة العتاد وخذلة الأصحاب:
فإن نَغْلِب فغلابون قدما .... وإن نُغْلَب فغير مغلبينا(1/156)
فهذا رأي أئمة الهدى عليهم السلام ولو كان معاوية ارتكب في أيام الحسن عليه السلام ما أرتكب بعده لناهضه للحرب، وحاكمه إلى قاضي الطعن والضرب، ولكن اغفل عدو الله الحال حتى نال في ولي الله ما نال، فهذا رأي أئمة الهدى عليهم السلام. تأمله تُصب رشدك وتعرف قصدك.(1/157)
[الكلام في التقية والرد عليهم]
مما يقع الكلام فيه قولهم في التقية وإنها دين الأئمة والأنبياء عليهم السلام، ومنهم من تعدى إلى أن أجازها على رب العالمين.
والكلام عليهم أنا نقول: هذه دعوى لا دليل عليها، وما لا دليل عليه مما يجب العلم به، فلا فرق بين ثبوته وعدمه، ويقال: ما الدليل إن لم تعترفوا بعدمه؟ فلا يجدون إلاَّ روايات واهية يروونها عن الأئمة عليهم السلام كقولهم: (التقية ديني ودين آبائي) وما شاكل ذلك.
الكلام في نفي ذلك، أن هذا الأصل يجب المصير فيه إلى العلم لأنه من مهمات أصول الدين والأخبار التي ذكروها آحاد لا توجب إلاَّ غالب الظن، لأن الذي ذكروه من صفات الإمام، والواجب في صفات الإمام الوصول إلى العلم فلا طريق لهم إلى تحقيق ذلك.(1/158)
ونذكر على وجه الإستظهار في إبطال ما ذهبوا إليه أنا نقول لهم: أما قولكم في تقية الأنبياء عليهم السلام، فإن ذلك يؤدي إلى أن لا يُثَقُ بشيء من الشرائع ولا يُقْطَعُ على صحة حكم من الأحكام، وهذا خروج عن الدين وانسلاخ عن الإسلام، أما أنه يؤدي إلى أن لا نثق بشيء من الشرائع ولا نعتقد صحة شيء من الأحكام فلأنا متى جوزَّنا التقية لم نأمن أن يكون أمرنا بغير ما أمره الله تعالى به تقيةً ونهانا عن غير مالا يجب عنه النهي تقية، وحكم بغير ما أنزل الله تقية، وأما أن اعتقاد ذلك إنسلاخ عن الدين فمما لا خلاف فيه بين المسلمين، وأمَّا أن الأئمة عليهم السلام لا يجوز عليهم التقية، فعند الإمامية أن الإمام يراد لتبيين الشرائع وإيضاح الأحكام، ولتعريفنا ما جهلنا من الشريعة، والتقية تنافي هذا كله، وعندنا إن الإمام يراد لمباينة الظالمين وإعلاء رسوم الدين وقمع المعتدين عن المحقين، وإلاَّ فما الحاجة إلى الإمام ?نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ?[الأنعام:143]، والتقية تنافي هذا كله، فالذي وصفوا به الإمام هو المسقط لحكم الإمامة لو قدر وقوعه، ولأنا لا نأمن أن يأمرنا بالمحظور تقية، وينهانا عن الواجب تقية، ولا نثق بشيء من الأمر، ولا نأمن أن يخبرنا بما لا حقيقة له تقية، ويكتم عنا ما علمه تقية، فيجوز عليه الكذب في أخباره وكتمان ما تُعبد بإظهاره، وهذا يؤدي إلى أن لا يوثق بالإمام ولا بالنبي ولا بشيء من الأحكام، فكل قولٍ أدَّى إلى هذا وجب القضاء بفساده.(1/159)
[الرد عليهم في الرجعة]
وأمَّا ما ذهبوا إليه من الرجعة فمما لا دليل عليه ولا يجوز لمسلمٍ اعتقاده ولا يجدون عليه دليلاً يوصل إلى العلم، وأما الدليل على بطلانه فلأن المعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من مات فميعاده يوم البعث ولا حياة قبله إلاَّ ما وردت به الآثار في عذاب القبر فحكم ذلك حكم الآخرة، فإذاً المعلوم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلاف ما ذهب إليه القوم في هذه المسئلة، فتلحق هذه المسئلة بالكفريات ويبعد أن يكون خلافاً بين أهل الإسلام، وقد روي عن الأئمة عليهم السلام إنكار شيء من ذلك كان قد نجم في أيامهم، وسنذكر منه ما بلغنا إن شاء الله تعالى فهو كالمنبه على ما بعده، وهو ما أخبرنا به الفقيه الأجل العالم العابد أحمد بن الحسين الأكوع رحمه الله، والمشائخ الفضلاء العلماء حسام الدين الحسن بن محمد الرصاص رحمه الله ومحيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد طول الله مدته، وعفيف الدين حنظلة بن الحسن رحمه الله، قالوا أخبرنا القاضي الأجل شمس الدين جمال المسلمين جعفر بن أحمد بن عبدالسلام بن أبي يحيى رضوان الله عليه قراءة عليه، قال: أخبرنا القاضي الإمام أحمد بن [أبي] الحسن الكني أسعده الله، قال: أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد فخر الدين أبو الحسين زيد بن الحسين بن علي البيهقي بقرائتي عليه قدم علينا الرَّي، والشيخ الإمام الأفضل مجدالدين عبدالمجيد بن عبدالغفار بن أبي سعد الاستراباذي الزيدي رحمه الله، قالا: أخبرنا السيد الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن جعفر الحسني النقيب باستراباذ في شهر الله الأصم رجب سنة ثمان عشرة وخمسمائة، قال: أخبرنا والدي السيد أبو جعفر محمد بن جعفر بن علي خليفة الحسني، والسيد أبو الحسن علي بن أبي طالب أحمد بن القاسم الحسني الآملي الملقب بالمستعين بالله، قالا: حدثنا السيد الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الحسني بإسناده رفعه إلى أبي خالد عمرو بن خالد،(1/160)