فهل هذا فعل من يعلم الغيب أيها الناظر؟ وقد تقرر من علم الأئمة عليهم السلام أن الإستعانة بالفاسق إذا غلب في الظن أنه لا يخون في ما استعين به فيه جائزة، فأمَّا إذا علم أنه يخون فلا خلاف أن ذلك لا يجوز قولاً واحداً، وقد استعان علي عليه السلام بقوم ظهرت خيانتهم له، منهم المنذر بن الجارود العبدي فإنه كتب إليه: أما بعد. فإنه غرَّني فيك صلاح أبيك والكتاب طويل، وهذا زبدته فكيف يغتر من يعلم الغيب، وكذلك وَلَىَّ عبدالله بن العباس رضي الله عنه البصرة فذهب ببيت مالها أخذه وصدر به على الإبل، والقصة مشهورة بحيث لا ينكرها أهل العلم، وخاطبه علي عليه السلام في ذلك خطاباً يطول شرحه فلو كان يعلم الغيب لَعَلِم ذلك، ولو علمه لكان في توليته له عاصياً لله تعالى، وهو عليه السلام معصوم، وكذلك فصل بسر بن أرطأة من الشام، فلما جاءت علياً عليه السلام عيونه بخبره وتوجهه إلى أرض اليمن استنفر الناس مع جويرية العبدي رحمه الله وأمره بلحاقه فلحقه إلى أرض اليمن ففاته، وقتل شيعة علي عليه السلام في نجران وشبام وجيشان وصنعاء وغيرها من البلدان، وذبح ابني عبيدالله بن العباس من الحارثية والقصة فيهما مشهورة، ومشهدهما اليوم في صنعاء معلوم، وهما الذان قالت فيهما أمهما الحارثية:
يا من أحسَّ بابني الذين هما .... كالدرتين تشفا عنهما الصدف
وهي أبيات، فكان بسرٌ يدلج من البلد وجويره يمشي معه فيها حتى أخرجه من أرض اليمن طرداً، وبسر يلتهم ما مرَّ به، فلما وصل مكة حرسها الله تعالى لقيه نعي علي عليه السلام، فلو كان عليه السلام بلغه العلم من الله تعالى أوكان يعلم الغيب لكان لقاهْم الجيش وضرب رقابهم قبل دخول اليمن، وسلمت شيعته وبلاده، وهذا لا يجهله عاقل متأمل.(1/146)
ومثل ذلك الكلام إغارة الضحاك بن قيس الفهري على الأنبار وقتله الأشرس بن حسان أو حسان بن حسان على خلاف في الرواية، وقد جاءه رسالة عامله يعلمه بإضلال القوم فاستنفر الناس فأبطا المدد فلم يلحقوا الضحاك إلاَّ بشرقي تدمر، وقد طفلت الشمس للغروب فقتلوا من أصحابه بضعة عشر رجلاً ونجا من تحت الليل، فلو كان علم ذلك ولقاهم الجيش لأهلكهم وسلم عامله، فإن علم ولم يفعل وحاشاه من ذلك فلم ينصح لله في دينه، فكل قول يؤدي إلى هذه الجهالات يلزم نبذه وإطراحه ولو تتبعنا هذا الخبر لطال الشرح.(1/147)
[بعض الأدلة على عدم علم الحسن عليه السلام الغيب]
وكذلك الحسن بن علي عليه السلام أخباره وأحواله مشهورة معلومة ضرورة، في بعثه لعمه عبيدالله بن العباس على مقدمته مع قيس بن سعد بن عبادة في عشرين ألف مقاتل، فأستأمن إلى معاوية، وفارق الجيش ليلاً، وكان ذلك سبب وهن أمر الحسن عليه السلام، وسقي السمَّ ثلاث مرات فهل تراه كان تناوله وهو يعلم ذلك؟ فهذا من الكبائر التي نزهه الله عنها حتى سقته امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس دسَّ إليها معاوية من أفسدها وخوَّفها طلاق الحسن بن علي عليه السلام لها، وكان مطلاقاً، وبذل لها مائة ألف درهم على سمه، ووعدها بزواج ولده يزيد، [فسقته السم] فقطع السم كبده عليه السلام ودخل عليه أصحابه يعودونه، فقال: لقد قلبت الآن كبدي بهذا العود الذي ترونه في يدي ولقد سقيت السم مراراً، وأمَّا مثل هذا فلا، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من تحسَّى سماً فسمُّه في يده يتحسَّاه في النار خالداً مخلداً، ومن وجا نفسه بحديده فحديدته في يده يجأ بها نفسه في النار خالداً مخلداً))، فهل تراه عليه السلام يتعمد الكبيرة وهو إمام معصوم بدلالة آية التطهير.(1/148)
[عدم علم الحسين للغيب]
ثم [كذلك الكلام] في الحسين عليه السلام وانخداعه لأهل الكوفة لما وصلته كتبهم، ثم جاءه بعد ذلك العلم من ابن عمه مسلم بن عقيل بطاعتهم وانقيادهم وكتبوا إليه ثمانمائة كتاب، فلما دنا منهم خذلوه، فقاتلوه حتى قتلوه، فهل تراه تعمد هلاك أهل بيته، وكشف حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وظهور الفاسقين على عترة خاتم النبيين؟ أم خانه ظنه في القوم؟ وأخلفوا الله ما وعدوه فحاق بهم وزر ذلك وعاره.
واعلم أنا لو أردنا الإستقصاء على ذكر الأئمة عليهم السلام [بل] لو ذكرناهم واحداً بعد واحد لأوضحنا من قصة كل واحد ما هو أكبر دليل على أنه لا يعلم الغيب، وإن كان أصل الدليل على نفي ما قالوه أن لا دليل عليه، وإنما ذكرنا ما ذكرنا على وجه الإستظهار، وما عيَّنا في أمر الأئمة المعصومين، والذين قامت الدلالة على عصمتهم ونفي وصمتهم، فمن بعدهم أبعد من ذلك ولا أحد يقول بالوحي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن قال فلا دليل له على قوله، وإن كانت الإمامية تقول: إن الأئمة تُنَاجَى، ولكن فما الدليل وليس لهم طريق إلى ذلك، وأما علم حوادث أصل الأخبار [بها] من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، [ولا شك أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم]، وعلم ذلك حصل إليه من قِبَلِ الله عزوجل [بالوحي]، والمستور عنه علمه أكثر من الواصل إليه قال الله تعالى: ?وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً?[الإسراء:85]، وعلم الغيب من صفات الخالق لأنه عالم [لذاته] فلا تختص ذاته بمعلوم دون معلوم، فلا بد أن يعلم الجميع لفقد المخصص، والعبد عالم بعلم والمعلومات لا تتناهى فكيف يصح إيجاد علوم لا تتناهى!!!(1/149)
[كلامهم في صحة إمامة الإمام وإن أغلق بابه والرد عليهم]
وأمَّا قولهم: تصح إمامة الإمام وإن أغلق بابه وأرخى ستره وداهن الظالمين وأمنهم وأمنوه وسالمهم وسالموه فهذا قولهم، وشاهد الحال لو لم يظهروا ذلك شهيد بما قلنا عليهم لأنهم أثبتوا الإمامة للقاعد ورفضوا القائم المجاهد، فأثبتوها لعلي بن الحسين عليه السلام، ورفضوا الحسن بن الحسن عليه السلام، وهو الذي عقدت له البيعة وتجرد للقيام والجهاد وعقدت له البيعة في الآفاق، فامتلأت قلوب الظالمين منه رعباً وخوفاً، ولقي الحجاج وكان لا يصطلي بناره جنوده التي كانت مع [ابن] الأشعث من صناديد المسلمين والعلماء والفقهاء، وسفك من دماء الظالمين مالا يحصى، ولم يزل في حلوق الظالمين شجىً معترضاً حتى دس عليه السم فمات، وأثبتوا الإمامة لمحمد بن علي عليه السلام ورفضوا زيد بن علي عليه السلام، وهو القائم المجاهد الذي ورد فيه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما ورد، وكذلك كلامهم في جعفر بن محمد عليه السلام، ورفضوا يحيى بن زيد، ولو شرحنا لطال الشرح، وهذا القدر كافٍ في الإستشهاد.(1/150)