[نقض دعوى الإمامية أن الإمام يعلم الغيب]
فأمَّا دعواهم أنه يعلم الغيوب فظاهر البطلان، لأنه لا دليل عليه، ولقيام الدليل على خلافه، أمَّا إنه لا دليل عليه فلأن الأدلة عقلية وسمعية، فليس في شيء منها دليل على علم أحد من العباد الغيب، قال تعالى: ?قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ?[النمل:65]، وقال تعالى معّلماً لنبيه ما ألزمه الله تعالى من الإعتر اف بوحدانية ربه: ?وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ?[الأعراف:188]، ولأنا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل عُمالاً فخانوا، فلو علم بخيانتهم لم يجز استعمالهم، منهم: خالد بن الوليد يوم الغُميصاء وقتله لبني جذيمة، ومنهم وليد بن عقبة في كذبه على القوم الذين بعثه إليهم، حتى هَمَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغزوهم حتى نزل الوحي بكذبه في قوله: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ?[الحجرات:6].
ومنها بعثه لنهار بن الحرث إلى بني حنيفة ليثبتهم على الدين فأغراهم بالكفر، وشهد لهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بأن مسيلمة قد أُشرِك معه في النبوة، فكانت هذه أعظم فتنة فأطبق القوم على نبوته.
ومنها: أنه أمر إلى بني قريظة من يستعلم بقاءهم على الحلف أم لا؟ فلو كان يعلم الغيب كان أمره عبثاً لأنه قد علم.(1/141)
ومن ذلك أنه كان يأمر حذيفة يتجسس على المنافقين، ويأتيه بأسرارهم، ومنها: أنه وعدهم في مسجد الضرار أنه يرجع من غزاته ويصلي لهم فيه حتى أعلمه الله تعالى أن بنيانهم [له] على شفا جرفٍ هارٍ لنفاقهم وخبثهم، ونهاه عن الصلاة فيه، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بخرابه، وقال: ?لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا?، وقال تعالى: ?عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا?[الجن:26،27]، فأخبر أن الرسل لا يعلمون إلاَّ ما علمهم، ثم رصد عليهم مع ذلك ملائكته يحفظونهم بأمره، ولا يكون ذلك إلاَّ بالوحي، ولا وحي إلاَّ إلى الأنبياء عليهم السلام، والإمام غير رسول الله بلا خلاف، وقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكل السم إلى أن كلمه العضو، ولو أردنا إستقصاء ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لطال الشرح فلنرجع إلى ذكر الوصي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما نذكر من الأمر طرفاً يدل على ما بعده.(1/142)
[بعض الأدلة على عدم علم أمير المؤمنين بالغيب]
لما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان من الناس في أمر علي عليه السلام من التقديم عليه بعد ورود النص فيه ما كان، وكان [من] أمر مغانم الخمس إليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده، فلما توالت الفتوح وكثرت الأموال وغلظت جنود المسلمين واحتاجوا إلى النفقة دعاه عمر إلى مالٍ من الخمس عظيم، فقال: يا علي، هذا حقك، أو قال: حقكم، فقال علي عليه السلام: إن بنا عنه غنىً، وبالمسلمين إليه حاجة ففرقه فيهم، فقال له عمه العباس رضي الله عنه: شيءٌ في يدك، أوقال: في أيدينا تخرجه إلى القوم، والله لا رجع إليك، أو قال: إلينا أبداً، فكان كما قال العباس، قال علي عليه السلام بعد ما بويع له: والله ما دعيت إليه حتى قمت مقامي هذا، فلو كان يعلم الغيب كما قالوا لكان إعطاؤه لهم الخمس من المعاصي العظيمة، ولكن حسَّن الظن بهم فخانه ظنه، ومن ذلك فعل معاوية اللعين وكيده في قيس بن سعد بن عبادة لما ولي مصر واستحكم أمره فيها، وكاد معاوية، وكان من دهاة العرب فصار معاوية بين شفرتي الجلم مصر والعراق.(1/143)
وكان قومٍ من فرسان العرب وحماة شجعانهم، منهم مسلمة بن مخلد، ومعاوية بن خديج في غيرهم، وكانوا عثمانية قد التجوا في خمسمائة فارسٍ إلى حرسا أو قيل: مرقسا والشام في ظهورهم فخادعهم قيس بن سعد رحمه الله، بأن قال: أدر لكم أرزاقكم ولا تعرضوا في جباية البلد ولا تظاهروا عدونا يعني معاوية حتى تعلموا ما يكون من أمرنا وأمره، فرضوا بذلك، ودعاهم معاوية فلم يجيبوه، فأعمل الملعون كيده فأظهر في بلاد الشام أن قيس بن سعد قد صار من جملتنا، فادعوا له في المساجد، [ولو لم تعلموا صحة ذلك] إلاَّبكفّه عن حرب أصحابكم، وكان عين علي عليه السلام على أهل الشام عمرو بن حطبان الواقشي ثم الدهمي ثم الشاكري في آخرين فجاءوا إلى علي عليه السلام بعلم ذلك، فكتب علي عليه السلام إلى قيس بن سعد رحمه الله يأمره بحرب القوم فرد الجواب يا أمير المؤمنين، إن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، والقوم لم يغيروا لي عملاً ولا بعثوا على حرباً، والشام في ظهورهم، إن أردت حربهم لم آمن إمداد معاوية لهم فيعظم الخطب على ذلك وهم فرسان العرب، فلما جاءه الكتاب قوي ذلك الظن في خيانته، فكتب إليه ثانية لا بد من حرب القوم، فكتب إليه يا أميرالمؤمنين، لا تفسد عليَّ رأيي فإني أنتظر فرصة القوم، وعند إمكانها انتهزها إن شاء الله، فأتاه عبدالله بن جعفر رضي الله عنه، وقال: هذا أكبر دليل على أن الرجل قد أصغى إلى عدوك وداهنه، فكتب إليه عليه السلام كتاباً وغلَّظ فيه، ورجع جوابه من قيس بن سعد: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإن أتاني منك كتاب بعد هذا لم أطعك ولم أعصك، وصيرت وجهي إلى بابك، فلما أتى هذا الكتاب قال له عبدالله بن جعفر: صرَّح الرجل بالمعصية، وكان له هوىً في أخيه محمد بن أبي بكر رحمه الله، فقال لعلي عليه السلام: ولِّ محمداً مصرا فولاه وعزل قيس بن سعد، وكان قيس رضي الله عنه أشد الخلق على معاوية، فلما وصل محمد إلى مصر تلقاه قيس بن سعد بالإنصاف، وقال:(1/144)
جئت زائراً أو عازلاً؟ قال: بل زائراً، قال: بل عازلاً، ولكن، والله ما يمنعني عزل أمير المؤمنين لي من النصيحة له في عدوه، إياك أن تحارب هؤلآء القوم، فإن حاربتهم خرجت مصر من يدك، ولكن أسلك معهم مسلكي فظن أنه خدعه فأظهر مساعدته وفي ضميره غير ذلك، فلما وصل قيس بن سعد إلى علي عليه السلام وحقق له الأمور شفاها علم صدقه، وقام محمد رحمه الله لحرب القوم، فوجه إليهم قائداً في جيش فقتلوه وهزموا جيشه، ثم وجه آخر فكذلك، واستصرخوا بجنود الشام فأمدهم معاوية بعمرو بن العاص في اثني عشر ألفاً، فأمر محمد في لقائهم كنانة بن بشر رحمه الله فقتلوا كنانة وهزموا جيشه ودخلوا إلى مصر، فقتلوا محمد بن أبي بكر رحمه الله، وبان لعلي عليه السلام أن معاوية أخزاه الله تعالى كاده في قيس بن سعد مكيدة لم يتمكن من استقالتها، فقال عليه السلام في ذلك:
لقد زللت زلةً لا اعتذر .... سوف أكيس بعدها فاستمر
وأترك الرأي الشئيب المنتشر .... وقد يزل المرء والرأي الحذر(1/145)