[قول الإمامية في وجوب المعجز والرد عليه]
وذهبت الإمامية إلى وجوب ظهور المعجز على الأئمة، والدليل على بطلان ما ادَّعوه عدم الدليل على تصحيح دّعواهم، إذ لو صح اعتقاد مالا دليل عليه لأدَّى إلى صحة [اعتقاد] الأمور المتنافية وكون الباطل حقاً والحق باطلاً، فإن عوَّلوا على رواياتٍ نرويها عنهم.
قلنا: ما تعتقدونه من ظهور المعجز على الأئمة عليهم السلام لا يخلو إمَّا أن يجب على المكلفين اعتقاد صحته، أو لا يجب.
فإن قالوا: بوجوب ذلك، وهو قولهم، فلا بد من حصول العلم به وإلاَّ سقط فرضه، وحصول العلم به إمَّا من الضرورة أو الإستدلال، لا يصح من الضرورة، والإستدلال عقلي وشرعي، ولا دليل في العقل عليه، ولا في الشرع، فوجب القضاء بفساد قولهم في ذلك.
فإن قالوا: قد علمنا ذلك.
قلنا: عندكم إن فرضه يلزمنا كما يلزمكم، فيجب أن نستوي في معرفة الدليل وإلاَّ لم يلزمنا فرضه، وإن اختلفنا في كيفية الإستدلال كما أن الكل من المكلفين يعلم العالم بما فيه من الحيوانات والجمادات وتوابعها من الأعراض وهي الدلالة على الله تعالى، فاختلافهم في الإستدلال لا في الدليل، وكما أن الكل من المكلفين علم معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحاضر بالمشاهدة، والغائب بالأخبار المتواترة، وبلغ القرآن الكريم وهو أجل المعجزات سائر أقطار الأرض، وإنما قال المكذبون القرآن كلامه وسائر المعجزات سحر إلى غير ذلك، فهل يعلم السامع أن ما ادّعوه للأئمة نازل منزلة هذه المعجزات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الظهور وحصول العلم بها للجميع.
فإن قال قائل بذلك: بَاهتَ، وإن قال: لا.(1/136)
قلنا: فلا يلزم الفرض إلاَّ بما يعلم دون ما لا يعلم، ولأنه لا يخلو إمَّا أن يظهر المعجز للتصديق، لزم ذلك في كل صادق، ومعلوم خلافه، لأن الأدلة تطرد، وإن كان لعلُوِ الشأن وجب مثل ذلك في المؤمنين لعلُوِ شأنهم عند رب العالمين، وإن كان لتنفيذ الأحكام وجب مثل ذلك في الأمراء والقضاة، وإن كان لأنه يبتدئ الشريعة ويؤسسها فذلك غير مقصود في الإمام، وشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد علم من دينه ضرورة أنها لا تنسخ أبداً إلى انقطاع التكليف، وما ذكروا من أن الإمام يأتي بالجفرين الأحمر والأبيض وأن في أحدهما السلاح، وفي أحدهما القضايا والأحكام والحدود حتى ما يلزم في الخدش وحتى الحدّ بجلدة ونصف جلدة وربع جلدة، وأنه يأمر أصحابه يعلّمون الناس القرآن كما انزِل، كما ذكروا ذلك ورووه مسنداً وأنهم يضربون قباباً في مسجد الكوفة ويعلمون الناس [القرآن] كما أنزل.
والذي يَدُلُّ على بطلان ما ذكروه أن هذه الأحكام التي في الجفرين لا تخلو إما أن نكون متعبَّدين بها أو غير متعبدين، فإن كنَّا متعبَّدين وجب على الباري تعالى إيصالها إلينا ليصح التكليف بها، لأنه يقبح التكليف بما لا يُعلم، وإن كنَّا غير متعبَّدين بها فلا وجه لكلامهم فيها، وادّعاء تكليف جديد في شرع [النبي] صلى الله عليه وآله وسلم، وإن قالوا: إن الأمة حرمت أنفسها ذلك لمنع الإمام.
قلنا: فلا بد من بلوغ الحجة عليها بعلم التكليف حتى تعصي في شيء قد أمرت به وعلمته أو تطيع فيه، ولأنكم معشر الإمامية في نهاية الإجتهاد في تقوية الإمام، فهلاّ أعلمكم بذلك لتعملوا بحسبه وتسلموا من الإختلاف الذي علمناه بينكم في الأصول والفروع، ولولا خشية التطويل لذكرناه في كتابنا هذا وهو معلوم لأهل المعرفة منَّا ومنكم، ولا بدنا من ذكر طرف منه يدل على غيره إن شاء الله.(1/137)
[حفظ القرآن]
وأمَّا القرآن فقد أخبرنا الباري سبحانه بحفظه في الأرض والسماء، قال الله تعالى ?فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ?[البروج:22]، وقال تعالى: ?وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?[فصلت:41ـ42]، ولا خلاف أن المراد بالكتاب العزيز القرآن، وإذا سرق بعضه وافتتح من جانبه فأي حفظ فيه، وإذا حرِّف وغيّر ولم يعلم المكلفون ذلك فقد أتاه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وقوله تعالى ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر:9]، فأخبرنا بحفظه، ولأن التكليف متعلق به، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب التمسك به، فلو علم فواته أو بعضه لما أمر أن نتمسك بالفائت، وقال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) فلو نسخ الكتاب وغاب الإمام سقط فرض الرجوع إليهما، كيف يرجع إلى معدوم وغائب هذا سراب السباسب، فهل أمرنا نفزع إلى موجود أو معدوم، وذلك كما يقول بعض النواصب: إن العترة انقرضت فما الفرق بين القولين للمتأمل.(1/138)
وهذا كلام جدِّنا القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وكان بمحل جليل في الإسلام عند المخالف والموالف من جميع الطوائف، وفيه من الآثار ما ذِكْرُه يخرجنا إلى الإسهاب، من ذلك ما رواه القاضي العالم ابن عمار، قال: أخبرني فقيه آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عصرنا الحسين بن حمزة، قال: أخبرني أبي النفس الزكية والشيبة المرضية حمزة بن أبي هاشم الإمام الرِّضى، يرفعه عن آبائه إلى شيخٍ من شيوخ آل الحسن، كان يدرس عنده فتيان آل الحسن، وكانوا إذا جاءوا قام في وجوههم، عظمهم فاقسموا عليه لا فعل، وكان القاسم عليه السلام من شباب ذلك العصر، فكان إذا أتى قام في وجهه وعظّمه، فقالوا: أيها السّيد، إنَّا قد عذرناك، وهذا الفتى لك أعذر، قال: لو تعلمون من حق هذا ما أعلم لاستصغرتم ما أصنع في حقه، قالوا: وما تعلم، قال هذا الفتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يخرج من [ولدي] رجل مسروق الرباعيتين لو كان بعدي نبي لكان هو))، فقد روى عليه السلام في تصانيفه قال: وجدت مصحف علي بن أبي طالب عليه السلام عند عجوز من عجائزنا فوجدته أجزاء، في أحدها وكتب علي بن أبي طالب، وفي آخر وكتب المقداد [بن الأسود]، وفي الآخر وكتب عمار، قال: فعلمت أنهم [قد] اعتونوا عليها، قال فعارضت به مصاحفنا فوجدته هذا المصحف الذي في أيدي الناس بغير زيادة ولا نقصان، إلاَّ أن قوله تعالى ?فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ?[التوبة:5]، (قَتِّلُوا المشركين) لاغير ذلك، ولأن ذلك لو جاز لجاز أن يكون علينا تعبدات كثيرة لا نعلم بها لأنها مما كتم وغيَّر، وزيادة على معلوم الصلوات الخمس وفرض صيام شهر آخر والحج إلى بيت ثانٍ [وغير] ذلك، وهذا بلا إشكال إنسلاخ عن الإسلام بالجملة، ولا شك في أن هذا الإيراد من دسيس الملحدة أقماهم الله عزوجل أرادوا به كيد الإسلام، فادركوا لعمر الله مرادهم بانخداع من انخدع لهم في ذلك، لأن لهم أن يقولوا ما أنكرتم أن يكون(1/139)
القرآن قد عورض بمثله ولكن كتم لقوة الإسلام وظهور أمره وتوفر دواعي أهله على حماية شرحه، ومثل هذا لا يوجد في كتمان شيء من القرآن، لأن عيون المسلمين هم أهل البيت عليهم السلام، هم أهل القرآن والمقرونون به، فلو أراد الناس كتمانه لبيَّنوه، ولو قيل: على بعد ذلك قهرهم الناس، لقيل: إنهم لا يقدرون على قهرهم على حفظه في السر وإلقائه إلى أوليائهم سِّراً حتى [يشتهر] ويستفيض بحيث لا يمكن كتمانه، لأنا نعلم ظهور الإسلام وقوته، وشدة عصبية أهله، والكتب المصنفة بالطعن على الإسلام، وتقوية الكفر والإلحاد لا ينحصر عددها، فما تمكن المسلمون [من] المنع من ذلك، ولأن كتب الأغاني فيها من القدح على بني العباس ما لا يجهله من علم ذلك وتحقيق أحوالهم في الشرب والغناء والملاهي والدار دارهم، والسلطان سلطانهم، وصنفت في بحبوحة [كلمتهم] خمسون كتاباً ما أمكنهم المنع منها، فكيف لا يمكن إظهار ما كتم من القرآن الكريم لولا ضلال العقول وذهاب الأفكار، وقد ذكر طعن الملحدين على القرآن الكريم [ومعارضته] ككلام ابن الراوندي وغيره وتصنيفهم في نقض القرآن ومعارضته فلم تمنع هيبة الإسلام وأهله وكونهم على اختلاف المذاهب يداً واحدة على أعدائه، [فكيف] يتصور منع بعضهم [عن] إظهار بعضه ما هذا إلاَّ ضلال في العقول وسفهٌ في الأحلام.(1/140)